IMLebanon

عقارات استأجرتها الدولة لـ”اليونيفيل”: من يُنصِف أصحابها؟

كتبت نور يزبك في “الأخبار”: 

هل يثأر نفط البلاد وغازها لطابع بلدة الناقورة السياحي، بعدما صنّفها سياسيّو الأمة بـ«الزراعية» ليخفّضوا قيمة أرضها وينهبوها وأتباعهم؟ سؤال يطرحه أهالي البلدة منذ توقيع اتفاق الترسيم في نهاية شهر تشرين الأول الفائت، وملاحظتهم لحركة عقارية لافتة أحيت الآمال بإعادة الاعتبار إلى قيمة أرضهم المادية، أو إلى ما تبقّى فيها من عقارات، إذ ازدادت حركة شراء العقارات بشكل ملحوظ من قبل كبار المستثمرين، بغية إنشاء مشاريع ومنتجعات سياحية. هذه الحركة رفعت أسعار العقارات بنسبة 30% على حدّ تقدير رئيس بلدية الناقورة عباس عواضة.

في ظلّ هذا الواقع، تعود إلى الواجهة مشكلة قديمة- جديدة يعاني منها أصحاب العقارات التي تقيم عليها قوات «اليونيفيل» مقرّها، بعدما أشاحت الدولة وجهها منذ زمن عن الحقوق المادية لمالكي العقارات، مقطّرة عليهم قيمة إيجارها البخس. فقد مرّ 44 عاماً، وعدّاد الأيام لا يزال يحتسب سنوات التهميش لحقوق المالكين المادية. بدأت الحكاية حين حطّت قوّات اليونيفيل رحالها في الناقورة يوم 23 آذار 1978، تنفيذاً لقرارَيْ مجلس الأمن 425 و426، على أثر الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان. وبموجب طلب الدولة اللبنانية من الأمم المتحدة إرسال قوات حفظ السلام، التزمت الحكومة اللبنانية بتأمين مراكز الإقامة لقوّات اليونيفيل، وقدّمت يومها مجموعة من العقارات الخاصة الممتدّة على طول الشاطئ لتكون المقرّ العام لقوات اليونيفيل.

«اسمه احتلال»

في تلك الظروف، لم يكن أمام الأهالي غير التسليم بالأمر الواقع وتوقيع وثائق تأجير عقاراتهم، من دون وجود أيّ بنود متّفق عليها بين الطرفين. تتخطّى مساحة العقارات الخاصة في مقرّ اليونيفيل القديم الـ350 ألف متر مربّع، على طول شاطئ الناقورة. ويملك هنري صفير وحده 200 ألف متر مربع من مساحة المقرّ الإجمالية. بنبرةٍ تهكّمية مُستاءة، يروي صفير تجربته المريرة في هذه القضية، متحسّراً على ضياع حقّه: «هذا أسمّيه احتلالاً، لم أوقّع على وثيقة إيجار ولم أكن في المنطقة أصلاً. كانت ظروف حرب، وعندما رجعت وجدت أن جزءاً من أرضي يوجد فيه قوات اليونيفيل والجزء الثاني احتلّه الناس وبنوا فيه محالَّ تجارية».
لا ينكر صفير الحركة الاقتصادية التي تنعم بها المنطقة بفعل وجود «اليونيفيل»، لكنه يعتبر أنّ الدولة اللبنانية خدعت أصحاب الأرض مقابل فتات الأموال: «تواصلت مع جهات في اليونيفيل، قالوا لي إن الدولة اللبنانية مسؤولة عن تأمين أرض. لكنّ الدولة أخذت عقارات الناس ولم تستعمل عقاراتها».
لا تقلّ قيمة عقار صفير، المشغول من قبل قوات اليونيفيل عن 80 مليون دولار أميركي، بينما يحصل على 400 مليون ليرة لبنانية سنوياً كبدل إيجار. والحكومة اللبنانية تدفع نحو المليونَيْ ليرة سنوياً بدلاً لإيجار كلّ ألف متر مربع. وتتمّ عملية الدفع عبر وزارة المالية، المسؤولة عن إجراء كشوفات على مختلف العقارات المشغولة من قبل قوات اليونيفيل، قبل أن يتولى الجيش اللبناني هذه المهمة.

تعتمد الدولة في تسعيرتها على دراسة قديمة أجراها الجيش في عام 2003 ولم تُعدّل منذ ذلك الحين. لكن بتقديرٍ بسيط لأسعار الأراضي في هذه الرقعة الجغرافية، يشير موسى طاهر، وهو يعمل سمساراً عقارياً في المنطقة، إلى أنّ قيمة الدونم الواحد تُراوح ما بين 300 ألف و600 ألف دولار أميركي، وتلامس المليون دولار ثمناً للأرض الملاصقة للشاطئ مباشرةً. أمّا عن إمكانية بيعها على حالها الآن، فيقول طاهر بسخرية «كمن يشتري سمكاً في البحر. حتّى لو اشتراها أحدهم، سيكون السعر قليلاً». يحدّثنا طاهر عن المستقبل العقاري الواعد للناقورة، وخاصة أنّ ملف الترسيم هذا قد يجلب للمنطقة الحدودية الاستقرار اللازم لاحتضان المشاريع السياحية الضخمة. هذه إذاً غصّة جديدة لأصحاب العقارات غير المعروفة المصير.

الدفعة… مرة كل 10 سنوات!

لم تكتفِ الدولة اللبنانية بأبخس الأثمان بدلاً لاستئجار الأراضي، بل شدّت الخناق على رقاب المالكين بتقطيرها للدفعات. «كمن يشحد حقه»، هذا هو التوصيف الأمثل لواقع الحال في ظلّ لامبالاة الدولة بحقوق المالكين وتخلّفها الدائم عن مواعيد الدفع. فمنذ تاريخ الاستئجار، لم تعطِهم الإيجار بشكل سنوي، بل تراكمه لأعوامٍ وأعوام، فيملّ هؤلاء من الطلب والسؤال.

تقول المحامية سامرة يزبك، المعنية بملاحقة حقوق بعض المالكين، إنّ آخر دفعة للمستحقات كانت عام 2014، ودفعت بدلات 3 سنوات. وقد مرّت فترة تتجاوز الثمانية أعوامٍ ولا يوجد أيّ مؤشر إلى تاريخ الدفعة الجديدة. علماً أنه سبق للمالكين أن انتظروا أحد عشر عاماً قبل تقاضيهم بدل الإيجار إثر مطالباتهم الحثيثة.

على أرجح تقدير، تستحوذ الدولة اللبنانية على هذه الأراضي وفقاً لصيغة الاستملاك المعتمدة عادةً في مثل هذه الحالات، ما يعطيها حق التصرّف في العقار بشكل مطلق تحقيقاً للمنفعة العامة، على أن تبقى الملكية لأصحابها المجرّدين من حقهم في استغلال العقار، طبعاً في فترة استملاكها له. غير أنّ قانون الاستملاك ينصّ في المادة 22 منه على تعويضات عادلة «تأخذ في الاعتبار جميع عناصر التقدير والتعويض، منها الموقع والمساحة والشكل وموضوع الاستثمار». لكنّ الدولة اللبنانية تغاضت عن هذا النصّ مقابل تعويضات محدودة. وتذكر يزبك أن الحكومة وعدت بدراسة جديدة لبدل الإيجار، لكن من دون نتيجة إلى الآن.

في ظلّ الانهيار الاقتصادي الحاصل، يخجل المالكون من المطالبة بفتات أموال الإيجار، فهي قد لا تكفي ثمن وقود سياراتهم لتسلّمها. تروي ديانا طاهر، زوجة أحد المالكين، عن حادثة حصلت معها مع إحدى الموظّفات في وزارة المالية، واتهمتها بـ«النصب» عليها عند موعد تسلّم الدُّفعة الأخيرة. تُقارن السيّدة موقفها من الحادثة بما لو عادت وتكرّرت اليوم: «في حينه لم نرغب في أن نرفع دعوى قضائية لأننا نعرف أن أتعاب المحامي والمحكمة كانت ستكلّفنا قيمة ما نطلبه، لكننا طالبنا بالدفعة وأعادوها لنا. اليوم، وعلى هذه التسعيرة لن نذهب حتى لنتسلّم المبلغ».

هل يمكن للـ«اليونيفيل» أن تدفع؟

بحسب الكتاب الرقم 1261، الصادر عن وزارة المالية بتاريخ 27 أيّار 1999، تظهر الفقرة الختامية منه طلب وزير المالية جورج قرم من رئاسة مجلس الوزراء «معاودة الاتصال» بالأمم المتحدة وحثّ الأخيرة على تولّي موضوع دفع الإيجار للمالكين. تستمدّ هذه الفقرة شرعية طلبها على اعتبار أنّ مهمة قوات الأمم المتحدة في لبنان هي مهمة رسمية بموجب قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، وأسوةً لما تدفعه الأمم المتحدة من تعويضات كهذه في بعض الدول بحسب ما ذُكر. وبتدقيقٍ بسيطٍ في المحتوى، إنّ كلمة «معاودة» المذكورة، هي خير دليل على أنّ الدولة اللبنانية كانت تحاول للمرّة الثانية على أقلّ تقدير الطلب من الأمم المتحدة تولّي المهمة عنها. أغلب الظّن أنها عاودت سماع الإجابة نفسها حينذاك، إذ إنّ الاتفاق الأوّل تضمن هذا الالتزام. وبحسب الناطق الرسمي باسم اليونيفيل أندريا تيننتي، وقّعت «قوات اليونيفيل» مع الحكومة اللبنانية في عام 1995 على اتفاقية «وضع القوات». تدخل مسألة تأمين الرقعة الجغرافية اللازمة لمواقع هذه القوّات دون مقابل مادي، ضمن النقاط الأساسية المتّفق عليها في هذه الاتفاقية. في السياق عينه، يضيف تيننتي: «تتواجد قوات اليونيفيل في لبنان بدعوة وطلب من الحكومة اللبنانية، هذا جزء من دعم الأمم المتحدة للسلام والأمن في المنطقة».

بشكل عام، يعوّض وجود «اليونيفيل» عن الغياب الإنمائي للدولة في المنطقة، فيوفّر عنها أعباء مالية كبيرة في هذا الإطار، ما قد يفسح مجالاً أوسع أمام الدولة لتحمّل التعويضات البسيطة عن العقارات، عوضاً عن المراوغة. وبلمحة سريعة عن المساعدات المباشرة للمجتمعات المحلية، «أنفقت قوات اليونيفيل في العام الماضي حوالى 500 ألف دولار بهدف إنجاز مشاريع سريعة الأثر. وبموافقة البلدان المساهمة بقواتٍ لها في اليونيفيل، صرفت الأخيرة ما تزيد قيمته عن 860 ألف دولار لإتمام مشاريع تعاون مدني – عسكري. لم تُحتسب ضمن هذه المساهمات أجور العاملين التابعين للمنظمة كالمهندسين والبنّائين والمنسّقين وغيرهم». هذه الأرقام التي تفيدنا بها «اليونيفيل»، هدفها القول إنها تعوّض بشكل غير مباشر كلفة الإقامة وتخدم المجتمع، في حين تراوغ الدولة في التزاماتها.

في جميع الأحوال، يبقى مالكو العقارات هم الحلقة الأضعف في القضية، وتبقى حقوقهم المادية مجهولة المصير في ظلّ سياسة المواربة المعتمدة. إنّ 44 عاماً لن يكون رقماً نهائياً في تاريخ استملاك هذه الرقعة، بل يتوقع الأهالي إضافة سنوات تهميشٍ مقبلة مجهولة العدد!

مشاعات البلدة بين يدَي القضاء

تبلغ مساحة العقارات العامة في البلدة نحو 1800 دونم، أي ما يقرب من الـ4.3% من مساحة البلدة الإجمالية. وهناك مشكلة كبرى تتعلق بمساحة كبيرة تقول البلدية إنها مشاعات، بينما ادّعى السيّد جواد طاهر بأنه يملكها وهي بمساحة 1216 دونماً، سُجّلت باسمه منذ عام 1984، فيما تتّهمه البلدية بأنّه استغلّ الحريق الحاصل في أمانة السجل العقاري في صيدا عام 1976 وتلف الملفات بالكامل حينها، ليُعيد مسح هذه الأراضي اختيارياً على اسمه بعد حصوله على «علم وخبر» من أحد المخاتير السابقين بأنّ العقارات المذكورة غير ممسوحة سابقاً. مع العلم أن البلدية تقول إن هذه العقارات مُسحت اختيارياً عام 1950 باعتبارها أملاكاً عامة (مشاعات)، مع الإشارة إلى أنّ المسح الاختياري يتمّ لمرة واحدة فحسب.

في عام 2002، تقدّمت بلدية الناقورة بدعوى قضائية أمام المحكمة العقارية في الجنوب، التي أصدرت قراراً نهائياً في الدعوى قضى بقبولها وبإعادة الحال إلى ما كانت عليه قبل المسح الاختياري عام 1984. إلّا أنّ هذا القرار فُسخ عام 2011 ورُدّت دعوى البلدية، بعد استئناف «طاهر» للحكم المذكور، وذلك لعدم صفة البلدية بالادعاء على اعتبار أنّ هذه العقارات هي ملك للجمهورية اللبنانية، ووحدها الدولة لها الحق بالمداعاة أمام القضاء.

تجدر الإشارة إلى أنّ الدولة اللبنانية لم تبدِ أي اهتمام بالأمر طوال مرحلتَي المحاكمة الابتدائية والاستئنافية، رغم إبلاغها بداية الدعوى لتحديد موقفها، لكنها تقدّمت بطلب التدخل في الدعوى في فترة المحاكمة التمييزية. في عام 2019، رُدّ الاستدعاء التمييزي كما رُدّ طلب تدخل الدولة اللبنانية، ما دفع البلدية إلى التقدّم بدعوى لمداعاة الدولة اللبنانية بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القضاة طالبةً إبطال القرار التمييزي. آخر مستجدات القضية، هو طلب رئيسة هيئة القضايا في وزارة العدل من أمين السجل العقاري في الجنوب إنشاء صحيفة عقارية مؤقتة للعقارات هذه.