IMLebanon

مرضى غسيل الكلى: البقاء للأغنى!

كتبت راجانا حمية في “الأخبار”:

4500 مريض يخضعون لجلسات غسيل الكلى في المستشفيات، معرّضون اليوم لخسارة معركتهم. هذا أقلّ ما يمكن أن يُقال في توصيف ما يحدث معهم نتيجة تشعّب الأزمات التي تلحق بهم، من آلية الدعم الملتوية التي تدعم الشركات بدل المرضى، إلى كلفة العلاج التي تدفعها الصناديق الضامنة متأخرة على أساس سعر ثابتٍ يعجز عن اللحاق بسعر صرف الدولار، وليس انتهاء بأزمة انخفاض أعداد الأطباء وما يحدث اليوم من إقفال أقسام.

ست سنوات، عاش علي (اسم مستعار) نصفها في المستشفى يغسل كليتيه. ثلاث مرات أسبوعياً، بات يحفظ فيها وجوه مرافقيه ويعرف دواماتهم. كان همّه محصوراً في تلك الفترة بأن يُنهي جلسته ويعود إلى حياته شبه الطبيعية. لكن، ما كان «محمولاً» ولو بشقّ الأنفس قبل اشتداد الأزمة، بات اليوم «يكلّفك حياتك»، يقول الستيني، وهو موصول منذ ساعتين إلى ماكينة غسيل الكلى.

لم يعد علي، كما غيره من مرضى الكلى، قادراً على تحمّل كلفة العلاج، خصوصاً أن علاج مريض الكلى «ليس حبّة دواء فقط»، وإنما تتعدّد مصاريف علاجه ما بين جلسات الغسيل الأسبوعية، والأدوية التي تسبق الجلسات وتليها، والتغذية التي تحتاج إلى «ميزانية مفصولة»، إذ إن المريض لا يستطيع أكل ما يأكله الجميع، وإنّما يحتاج إلى نظام غذائي بات مكلفاً جداً، وهو لا يملك من تلك الأكلاف سوى «رحمة الله»، يقول.
لا يخوض علي معركته «الخاسرة» وحيداً اليوم، فثمة 4500 مريض يواجهون مرضاً شرساً بلا حولٍ ولا قوة، موزّعين في غالبيتهم على مراكز الغسيل في المستشفيات الجامعية الكبرى، فيما باغت المرض بعضهم أخيراً فلم يجدوا مركزاً يؤويهم، حيث أن المستشفيات في الحالة الراهنة «تفضّل ألا تستقبل مرضى كلى»، يقول الدكتور مجدي حمادة، رئيس دائرة الطب الداخلي والكلى في الجامعة اللبنانية ومستشفى الزهراء الجامعي.

اختزال طموحات المرضى
لا يمكن لأحدٍ تقدير صعوبة المعركة إلا حيث تحدث. وهناك، في أحد مراكز غسيل الكلى في إحدى المستشفيات الجامعية، حيث يعيش المرضى نصف حياتهم، يمكن أن ترى بأم العين كيف يعيش علي ومن يشبهه معركة البقاء.
لا تشبه مراكز غسيل الكلى غيرها من الطبقات في المستشفى، فهنا لا أحاديث جانبية بين المرضى الموصولين إلى ماكينات الغسيل. لا تسمع سوى «طرطقة» الماكينات ووقع أقدام الممرضين والممرضات بينها يرقبون الوقت. أما المرضى، فعيونهم متعبة، ليس من المرض وحده وإنما من النظر إلى الشاشات، وهم يحسبون ما تبقى من الوقت للانتهاء من الجلسات. وهو وقت لا يقلّ في الغالب عن 3 أو 4 ساعات تتكرّر «يوم إيه، يوم لأ»، تقول إحدى الممرضات.

في تلك الصالة التي تحتوي على ما يقرب من 40 سريراً، أصبحت العلاقة بين المرضى والعاملين فيها أشبه «بالعلاقة ما بين أفراد الأسرة»، تقول إحدى الممرضات، حتى وصلت إلى حدّ أنهم قد ينصحونك بالحديث إلى هذا «لأن وضعه أكثر سوءاً من غيره» أو لأنه «الأقدر على التحدّث عما يعانيه مرضى الكلى اليوم». وهي المعاناة التي تقترن حالياً بالخوف من موتٍ قد تتسبّب به أزمة اقتصادية ـ مالية كانت سبباً في اختزال طموحات المرضى. فاليوم، لم يعد المرضى يحسبون حساب الشفاء، بقدر ما صارت طموحاتهم محصورة بإيجاد أدويتهم والحفاظ على انتظام جلسات الغسيل، خصوصاً أنهم يخضعون للجلسات ثلاث مرات أسبوعياً، ولا يمكن تفويت واحدة منها. أمران لم يعد تحقيقهما سهلاً، إذ إن الأدوية التي يتناولها مرضى الكلى لم تعد متوافرة بمعظمها في الصيدليات، وحتى بدائلها التي كانوا يعوّلون عليها مفقودة هي الأخرى. وقد أدّى هذا الأمر إلى اقتصار العلاج على ما هو متوافر، مع ما يعنيه هذا الأمر من انعكاسات على صحة المريض.

ما تيسّر من الدواء
قاسم (اسم مستعار)، واحد من المرضى الذين خسروا الرهان في مواجهة المرض، لكثرة ما يعانيه من عدم انتظام مواعيد أدويته الكثيرة التي تتنوّع ما بين الضغط والسكري وعقاقير الكالسيوم وإبر الحديد وغيرها. وقد بات اليوم مجبراً على تناول ما تيسّر من الأدوية واختزال بعضها الآخر بسبب غلاء أسعارها. هكذا مثلاً، يختزل قاسم من لائحة أدويته دواء السكري «لأن سعره أصبح بحدود خمسة ملايين ليرة»، وهي كلفة تفوق قدرته اليوم كسائقٍ يعمل في إحدى المدارس، ويتقاضى أقلّ من هذا المبلغ ويتوجب عليه تقسيمه ما بين «الأدوية والبيت». وبسبب هذه القسمة غير العادلة، يستدين قاسم ليكمل حياته التي بات «يستكثرها»، بحسب قوله.

المعاناة ليست محصورة بقاسم وإنما بكلّ مرضى الكلى، إذ يحتاج هؤلاء إلى أكثر من نوع دواء، وبحسب حمادة «مريض الغسيل يتناول في النهار ما لا يقلّ عن 20 حبة دواء سعرها بالملايين، ومعظم المدعوم منها بات غير موجود».
وإلى انقطاع الأدوية، يعيش مرضى غسيل الكلى خوفاً يومياً من تأجيل جلسات الغسيل نتيجة الأزمة المستجدة المتعلقة بانقطاع بعض معدات ماكينات الغسيل. وبسبب ذلك، لم تعد مواعيد هؤلاء تحدّد تلقائياً، إذ بات المريض ينتظر اتصالاً من المستشفى لتحديد ما إذا كان هناك جلسة غسيل في الغد أو لا، وفي بعض الأحيان يأتي الاتصال في اليوم نفسه للجلسة… إلى أن أصبحت علاجاتهم مرهونة باتصالٍ قد يعني غيابه «موت المريض»، يقول حمادة. بالنسبة إلى الأخير، بات هذا الخيار ممكناً و«واصلين له» في أقرب وقتٍ ممكن.

المستلزمات والدواء ودوّامة الدعم: الأزمة المعقّدة
خرجت أزمة مرضى الكلى من إطار فقدان الأدوية. لم يعد هذا السبب الوحيد لتدهور أحوال المرضى، مع انضمام أزمة المستلزمات والمعدات الطبية إلى قائمة الأسباب التي تحول دون استكمال معظم المرضى لعلاجاتهم المطلوبة في المستشفى.
اليوم، ثمة سببان أساسيان يقودان المرضى نحو انهيار حتمي، أوّلهما آلية الدعم التي يفرضها مصرف لبنان، وثانيهما التحديث الذي لحق بماكينات غسيل الكلى في معظم المستشفيات، التي أصبحت معداتها محدودة بأنواعٍ معينة. والمشكلة أن هذه المعدات توفرها شركة واحدة لمعظم المراكز، أي أن أيّ تأخير في شحنة تلك الشركة يعني إرباكاً في الجلسات وفي بعض الأحيان توقفها، وهو ما حدث أخيراً في مستشفيَي الزهراء والمقاصد اللذين واجها أزمة بسبب تأخر وصول الأنابيب الخاصة بالماكينات الموجودة بالمستشفى (bloodline)، ما خلّف حالة من الذعر حُلّت مؤقتاً باستعارة الأنابيب من مستشفيات أخرى، وفي تحويل بعض المرضى إلى مراكز أخرى.

نحو سيناريو «كارثي»
تعود الجذور الأساسية للأزمة إلى آلية دعم المستلزمات التي يفرضها مصرف لبنان، بحيث يتأخر البت بالمعاملات. وبسبب هذا الأمر وتراكم ديون الشركات والوكلاء في ذمة المصرف، يمتنع هؤلاء في الفترة الأخيرة عن تأمين المعدات بالوتيرة التي كانت سائدة والتوزيع على المستشفيات بـ«الحبّة». وهو ما تطبّقه أخيراً شركة «فريسينيوس»، الوكيل الحصري للمعدات في 60% من مراكز غسيل الكلى.
لكلّ هذه الأسباب، يتوقع رئيس دائرة الطب الداخلي والكلى في الجامعة اللبنانية ومستشفى الزهراء الجامعي الدكتور مجدي حمادة أن تزداد حدة الأزمة في كانون الثاني وشباط المقبلَيْن، إلى الحدّ الذي «يمكن أن نفقد فيها الكثيرين من مرضى غسيل الكلى ومن الأطباء أيضاً وقد نشهد تسكير أقسام الغسيل في المستشفيات». ويردّ حمادة هذا السيناريو الكارثي إلى «أننا سنكون قادرين على الحصول على المستلزمات والمعدات حتى نهاية العام الجاري، وإن بالقطارة، أما بعد ذلك فنحن مقبلون على أزمة كبيرة خصوصاً أن الشركات التي لا تزال تؤمن المعدات لن تستمر في تحمّل الخسائر وهي تبحث للخروج من هنا». أضف إلى أنه في تلك الفترة، تنتهي مفاعيل المرسوم الوزاري الذي يرصد بموجبه مبلغ الـ35 مليون دولار لتأمين الأدوية والمستلزمات، ودون هذه النهاية معركة جديدة قد لا تكون نتيجتها محسومة.

«الدولار يسبق الجميع»
تتجلّى ثانية أزمات مرضى الكلى في العلاقة المثلّثة ما بين الصناديق الضامنة والمستشفيات والأطباء. فحتى اللحظة الراهنة، لا تزال جلسات غسيل الكلى مدعومة، وتحدّد الصناديق الضامنة كلفة تغطيتها لها وبدلات أتعاب الأطباء عن كلّ جلسة. في ما يتعلق بالكلفة التي تدفعها الصناديق الضامنة، فهي ليست موحّدة، فكل صندوق يرصد «كلفتها الخاصة»، ونذكر مثلاً أن وزارة الصحة العامة رفعت في الآونة الأخيرة كلفة الجلسة إلى مليون ونصف مليون ليرة، بعدما كانت الوزارة قد حدّدتها بـ500 ألف ليرة العام الماضي، و200 ألف ليرة قبل اندلاع الأزمة. أما بدلات أتعاب الأطباء، فقد رفعتها الوزارة من 37 ألفاً وخمسمئة ليرة إلى 75 ألفاً ثم إلى 225 ألف ليرة. غير أن مشكلة هذه الأكلاف أنها لا تترافق مع ما تشهده الأزمة، ودائماً «الدولار يسبق الكلّ»، يتابع حمادة.

وبسبب هذا الأمر، تتأرجح العلاقة بين المستشفيات والصناديق الضامنة، وزارة الصحة تحديداً، ما بين مدّ وجزر، خصوصاً أن المستحقات تُدفع سنوياً، فيما كلفة الجلسات من معدات وأدوية تدفعها المستشفيات شهرياً. وهو ما دفع نقابة أصحاب المستشفيات إلى مطالبة الوزارة بإعادة الفوترة على أساس شهري، كما الصناديق الأخرى لإعادة النظر بجدولة مستحقاتها، و«إلا ستضطر إلى تدفيع المرضى».

أما الأطباء، فشكواهم لا تتأتّى فقط من تأخير تسديد بدلاتهم سنة كاملة أو كلّ ستة أشهر، وإنما من وضعهم تحت رحمة المصارف، إذ توضع الأموال في حسابات مصرفية تخضع لأهواء أصحاب المصارف. ويذكر الدكتور سعد أبو همين، طبيب الكلى في مستشفى بيروت العام وعضو مجلس نقابة الأطباء أن «ما نتقاضاه عن عامٍ كامل قد يستغرق سحبه من المصرف عاماً ونصف عام»! وفي ظروف اقتصادية مماثلة، يخوض الأطباء معركة حياة يومية، بحسب أبو همين، «لأن عملهم محصور فقط في المراكز، فهم لا يملكون عيادات قد تسندهم في معيشتهم، ويتّكلون فقط على ما تعطيهم إياه وزارة الصحة العامة والصناديق الضامنة عن المرضى». ومع ذلك، لا يمكنهم اتخاذ إجراءات متطرّفة كإعلان الإضراب «لأن أحداً لا يستطيع تحميل ضميره وزر موت مريض»، يقول حمادة. وفي هذا السياق، طالب الأطباء بدفع المستحقات شهرياً، أو تسديدها على أساس سعر صرف منصة صيرفة أو فريش، إلا أن أياً من هذه الاقتراحات لم يأخذ طريقه نحو التنفيذ. وفي الآونة الأخيرة، طالب هؤلاء برفع بدل الأتعاب من 5 إلى 10، إلا أن الاقتراح رُفض، بحسب أبو همين.
تهدّد الأزمة بفقدان كثيرين من مرضى غسيل الكلى وبهجرة المزيد من الأطباء

لكلّ هذه الأسباب، فقد القطاع الكثير من الأطباء، إذ يستمرّ اليوم بـ70 طبيباً من أصل 180، هاجر معظمهم بحثاً عن فرص عملٍ في مستشفيات الخارج. ومن بقي هنا، فهو من لم يستطع إيجاد فرصته، أو من كبر على تأمين مستقبله خارجاً. أما الحديث عن ارتباط من بقي بوطنه برغم الأزمة المالية، فقد بات ضرباً من الخيال «فلا أحد بعد قادر على التضحية أكثر»، يقول أبو همين، لسببٍ واحد أن «الأطباء فئة كغيرهم من اللبنانيين يبحثون هم أيضاً عن لقمة عيش، فهم مواطنون ولديهم أولاد في المدارس والجامعات ومتطلبات». ولذلك، فإن العدد مرشّح للازدياد مع طول الأزمة، إذ يتوقع حمادة أن يستمرّ الانخفاض حتى تصل الأعداد إلى النصف وعندها لا أحد قد يتحمل العقبى، إذ إن المستشفيات ستتخذ خيارات تتجلّى بإقفال أقسام غسيل الكلى… وهي ليست ممتنّة أصلاً لتحمّل الخسائر اليوم. وفي هذا السياق، بدأت الإقفالات في المستشفيات، وإن بشكلٍ خجول، ومنها إقفال 4 أقسام حتى اللحظة.

دعم المستهدفين مباشرة
كانت كلفة جلسة غسيل الكلى تبلغ قبل الأزمة 200 ألف ليرة لبنانية، أي ما يعادل 110 دولارات أميركية، مدعومة بالكامل، بمعدّل يُقدّر بـ250 مليون دولار أميركي سنوياً. أما اليوم، فتخضع الكلفة لزيادات غير محسوبة وغير ثابتة، كما حصل قبل أشهر مع قرار رفع الدعم عن بعض الأدوية التي تستخدمها المستشفيات. مع ذلك، لا تزال أكلاف الجلسات تفوتر على أساس أنها مدعومة بالكامل. لكن، المفارقة هي في الطرق الملتوية التي يسلكها الدعم الموجّه إلى الشركات، والتي من المؤكد أنها راكمت الكثير من الأرباح على حساب مرضى الكلى وغيرهم، بدل دعم المستهدفين مباشرة. ولذلك، تأتي الدعوة اليوم لإعادة مسار الدعم إلى طبيعته. وفي هذا السياق، يقترح أبو همين «دعم مرضى الكلى مباشرة، إما من خلال تسديد أكلاف علاجهم مباشرة إلى المستشفيات أو أن يدفع المريض الكلفة ويحصّلها في ما بعد بطريقة واضحة من الصندوق الضامن الذي يخضع له». ما دون هذه الآلية، ستبقى الأزمة مفتوحة، خصوصاً أن قنوات الدعم الحالية لا ثابتة ولا مستمرة. أما الخيار الأكثر تطرّفاً فهو «أن يأتي الدعم من الخارج»، وإلا فمن المستحيل «علاج السرطان بحبّة بانادول»، يختم حمادة.