IMLebanon

أحداث جنوب لبنان: إستهداف الشرعيّة الدوليّة!

كتب نبيل خليفه في “نداء الوطن”:

تشهد منطقة جنوب لبنان أحداثاً أمنيّة ملفتة آخرها وأهمّها اطلاق النار على عربة لقوات الأمم المتحدة ما أدّى إلى مقتل الجندي الايرلندي شون رووني. هذه الحادثة بكل ما فيها وما تعنيه سياسياً وأمنياً ألقت بظلها على الوضع العام في البلاد وعلى علاقات لبنان الدوليّة التي استنكرت بإجماع وقوّة ما حصل في العاقبيّة والذي وصفه البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي بأنه «حادث مأسوي يشوّه وجه لبنان ويستوجب تحقيقاً شفافاً لبنانياً – أممياً يكشف الحقيقة ويجري العدالة»، ورأى البطريرك أن الجندي الشهيد «استشهد برصاصة حقد اغتالته».

أمر ثانٍ ملفت لا يقل أهميّة واثارة هو الوضع في بلدة رميش الجنوبيّة حيث يتم الاعتداء على الأملاك الخاصة والعامة للمواطنين ويجري استخدامها واستغلالها من قبل جهات نافذة وقوى الأمن لا تحرّك ساكناً لمنع التعديّات الأمر الذي يؤدي في حال استمراره وتماديه إلى مواجهة مسلحة تولّد وضعاً أمنياً غير مستقر وتؤدي إلى صراعات وخلافات محليّة بين المواطنين اللبنانيين وهنا دعا البطريرك الراعي في خطبته الأحد إلى «سحب العناصر الغريبة عن البلدة ووضع حدّ لكل التعديات فيشعر أهالي رميش أنهم ينتمون إلى دولة تحميهم».

فهل يمكن تلمّس خلفيات ما يحدث في الجنوب وما هي استهدافاته الحقيقية بعيداً عن الاتهامات السهلة والجاهزة؟

سيكون من السهل جداً تسمية الجهة المسؤولة عما يجري في الجنوب بالاستناد إلى ما يجري في كل لبنان: من جنوبه إلى شماله، ذلك أنّ ممارسة فعل القوة العسكرية الضاربة بحاجة إلى أداة بشرية تقوم به وعادة ما تكون على شكل منظمات سياسية – عسكرية.

لم يصدر بعد التقرير حول حادث الاعتداء، لا من الأجهزة اللبنانية العسكرية المكلفة بالأمر ولا من جهة البعثة الايرلندية المكلفة من جانب السلطات الايرلندية بكشف حقيقة ما حدث. لذا تبقى الآراء المعطاة حول هذا الموضوع في باب التصوّرات والاتّهامات ولا ترقى إلى مستوى الحقائق الموضوعية التي تبين بكل دقّة ووضوح ما حدث في العاقبيّة: من أطلق النار على سيارة اليونيفل؟ ولماذا؟

هذا الحادث الحَدَث يقتضي التوقّف عنده لأنّه في حدّ علمنا واعتقادنا يمثّل مرحلة جديدة في مسار قديم وطويل. فقد كان لبنان عامة، وجنوب لبنان خاصة – موضوعاً لجملة نشاطات وقرارات في مجلس الأمن الدولي بدءاً بالقرار رقم 425 (1978) وصولاً إلى القرار 1559 (2 أيلول 2004) الذي يعتبر القرار المرجعي في المسألة اللبنانية اذ هو قرار تأسيسي وليس مجرّد قرار اداري. فهو يؤكد مطالبته بالاحترام التام لسيادة لبنان وسلامته الاقليمية ووحدته واستقلاله السياسي تحت سلطة حكومة لبنان وحدها دون منازع في جميع أنحاء لبنان. ويهيب بجميع القوات الأجنبيّة المتبقية الانسحاب من لبنان. ويدعو إلى حل جميع الميليشيات اللبنانيّة وغير اللبنانية ونزع سلاحها. ويؤيد بسط سيطرة حكومة لبنان على جميع الأراضي اللبنانية. ويدعو إلى احترام قواعد الدستور اللبناني وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.

لقد حقق القرار 1559 انجازيْن مهمين على صعيد الوضع اللبناني: الأول أجبر الذين تلاعبوا بالطائف على العودة اليه والقبول به ميثاقاً لبنانياً نصاً وروحاً، والثاني أنه شرعن دولياً وباجماع الشرعية الدولية نهائية لبنان الكيان والدولة بما يعني في مفهوم دار الافتاء آنذاك «التنازل نهائياً عن مسألة الوحدة العربية او الوحدة الاسلامية ومما يعني لدى المغفور له الامام محمد مهدي شمس الدين ان لبنان خارج أي صيغة من الوحدة إلى أبد الآبدين. ومن الأفضل له ولكل المحيط العربيّ والاسلامي ان يبقى جمهورية مستقلّة ذات سيادة غير متحدة مع أحد وتتعاون مع الكل دون ان يذوب كيانها مع أحد» (النهار 7/12/2000). بمعنى آخر إن القرار 1559 أنهى الحلم السوري بضم لبنان على مراحل!

على أنّ للقرار 1559 وجهاً أعمق وتأثيراً أوسع وأشمل، ومفعولاً جغرافياً وتاريخياً إذ أنّه شكّل الضمانة القانونية الدائمة التي التزمت بها الشرعية الدولية بالإجماع في ازاء لبنان الدولة والكيان. لبنان السيد الحر المستقل النهائي (صفة نهائي مهمّة جداً هنا) باعتباره حقيقة جغرافية وتاريخية. وهي أهم ضمانة من الشرعية الدولية (مجلس الأمن والأمم المتحدة) يحصل عليها لبنان منذ نشوء دولته بالقرار رقم 318 للجنرال غورو عام 1920.

إنّ القول والقبول بلبنان وطناً نهائياً لدى بعض القادة المسلمين شيعة وسنّة كان تحوّلاً عميقاً وجذرياً في النظرة الاسلامية إلى لبنان إن ببعدها الديني – المذهبي أم ببعدها السياسي. ولذا سارع المتضررون من هذا التوجّه إلى شطب الداعين إليه وكان الضحية الأولى الإمام موسى الصدر الذي انطلق من قاعدة: «إنّ لبنان وطن نهائي لجميع ابنائه»، وكان الضحية الثانية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي جعل ذروة امنياته في تحقيق لبنان الوطن النهائي… المهم في الأمرين معاً أنّهما يستندان إلى مبادئ الشرعية الدولية ونظرتها إلى لبنان الدولة والكيان. ولقد سعت الشرعية الدولية عبر مجلس الأمن إلى احاطة لبنان بقرارات أمنيّة رادعة تساعد السلطة اللبنانية على ممارسة السيادة على كافة الأراضي اللبنانية وضمن حدود معترف بها من كافة الأطراف.

هنا تقع المشكلة الكبرى وهي اشكالية الحدود ومدى تمثيل الأمم المتحدة للشرعية الدولية التي تحكم الوضع القائم داخل الدولة اللبنانية. فبالنسبة لجهات متواجدة في جنوب لبنان، إنّ منطلق النظرة وقاعدتها هو منطلق ديني – مذهبي وليس دولياً. وبالتالي هناك شرعيّة أو شرع الدين وهناك مؤسسات غير مجلس الأمن والأمم المتحدة، ومنه هذه الشرعيات تحمل في ثناياها ارادة الله وحكمه في الناس. وبالتالي فهي التي يجب أن تكون في أساس الحياة العامة. وكل خروج عليها هو خروج على الدين الحنيف وينبغي رفضه وردّه بمختلف الأساليب بما فيها استعمال القوّة. وهو ما حصل في حادثة العاقبيّة. على أن تبقى أحكام الاتهامات معلقة حتى صدور التقارير النهائية حول الموضوع وهي تقارير لا يمكن تحريفها نظراً لارتباط الارادة الدولية بها!

إن ما يحدث في بلدة رميش الجنوبيّة وحولها من أرزاق وأملاك وأشجار وطرقات، هو شكل آخر مما جرى في العاقبيّة: إنه خروج على الشرعية بل تعدّ عليها تحت ستار التصورات التخييليّة الخادعة. إنها بمعناها الديني خروج على وثيقة الأخوة التي نادى بها البابا فرنسيس. وهي بمعناها السياسي خروج على الحياة المشتركة المسيحية – الإسلامية التي تكونت على مدى العمر. وهي بمعناها الاقتصادي عزل لجماعة وطنية طالما دافعت عن وطنها وشعبها وحافظت على ثرواتها ومكتساباتها المعنوية والمادية.

في الخلاصة العامة، إنّ التعديات الكبرى التي تواجهها جماعات سياسية إن في علاقاتها الاقليميّة أم الدولية بما فيها من تعثر وفشل وخاصة في الموضوع النووي، يجعلها تسعى إلى الثأر من المحيطين بها: جنوداً أمميين ام مواطنين مسالمين. وهي اذ تطلق النار عليهم فلكي تقول إنها هي تملك حق تحديد الشرعية الدولية على أرض لبنان عامة وارض الجنوب خاصة، وهو ما تقوم به وستقوم به اليوم وغداً.

فليس المستهدف في جنوب لبنان جندياً أممياً أم جماعة لبنانية في بلدة رميش – المطلوب والمستهدف أبعد وأهم وأكبر من ذلك، إنه مفهوم الشرعية الدولية في ازاء مفهوم الشرعية الدينية المذهبيّة. وفي هذا عودة، بل إعادة إلى الأساس!!