IMLebanon

الراعي: لإبراز جمال السياسة كفنّ شريف لخدمة الخير العام

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، قداس خميس الأسرار ورتبة الغسل، في بازيليك سيدة لبنان حريصا.

وألقى البطريرك الراعي عظة، بعد رتبة الغسل والإنجيل المقدس، حملت عنوان “أحبّهم يسوع حتّى النهاية”، وجاء فيها: “أحبّ يسوع أبناء العالم حتى النهاية، معبّرًا عن حبّه هذا في عشائه الفصحيّ الأخير، في ذاك الخميس المملوء أسرارًا، بمبادرتين: غسل أرجل تلاميذه الإثني عشر المعدّين ليكونوا كهنة العهد الجديد، واستمراريّة حضوره في هذا العالم ذبيحة فداءٍ ووليمة الحياة الإلهيّة بتأسيسه سرَّي القربان والكهنوت. وهكذا أحبّ أبناء هذا العالم حتى نهاية الأزمنة”.

واشار الى أنّ “المبادرة الأولى مستمرّة اليوم بغسل أرجلكم، يا رجال الفنّ، الذين تمثّلون التلاميذ الإثني عشر. والربّ يسوع الذي “هو هو أمس واليوم وإلى الأبد” (عب 13: 8)، من خلال خدمتنا الشخصيّة وباسمه، هو الذي يغسل أرجلكم، كعلامة لغسل قلوبكم بنعمته. فإنّا بكلّ خشوع نستحضره كاهنًا أزليًّا يقيم بواسطتنا هذه الليتورجيا الإلهيّة. إنّ اختياركم شخصيًّا هو في آنٍ نعمة وشرف. أمّا النعمة فهي ثمار الفداء التي ستنالونها؛ وأمّا الشرف فلأنّكم تمثّلون التلاميذ الإثني عشر الذين أحبّهم يسوع واختارهم وسلّمهم رسالته الخلاصيّة”.

كما اضاف: “المبادرة الثانية، هي المحبّة العظمى التي أسس بها يسوع سرّي القربان والكهنوت. فأنشأ هكذا فصح العهد الجديد: الحمل الفصحيّ هو يسوع بشخصه الذي قدّم ذاته ذبيحة فداء عن خطايا البشر أجمعين، ووليمة سماويّة للحياة الجديدة. وقد استبقهما بتحويل الخبز إلى جسده، والخمر إلى دمه. فقال عن الخبز “بعد أن شكر وقدّس: خذوا كلوا، هذا هو جسدي الذي يبذل من أجلكم لمغفرة الخطايا”، وعن كأس الخمر: “خذوا اشربوا منها كلّكم، هذه كأس دمي الذي يُراق من أجلكم ومن أجل الكثيرين لمغفرة الخطايا”. (متى 26: 26-29؛ مر 14: 22-24؛ لو 22: 17-19). ومن بعدها أسّس سرّ الكهنوت إذ قال: “إصنعوا هذا لذكري” (لو 22: 19)”.

ولفت الراعي الى أنه “بهاتين المبادرتين تكوّنت الحضارة المسيحيّة بوجهيها: الأوّل، حضارة الخدمة بتواضع، كما صرّح الربّ يسوع: “إذا كنت أنا ربّكم ومعلّمكم، قد غسلت لكم أرجلكم، فكم عليكم أنتم أن يغسل بعضكم أرجل بعض. لقد أعطيتكم بهذا مثالًا، فكما صنعت لكم، تصنعون أنتم أيضًا” (يو 13: 14-15)”.

وتابع: “الوجه الثاني، حضارة البذل والعطاء التي نعيشها في القدّاس الإلهيّ، حيث تجتمع الجماعة المسيحيّة، وتتعلّم هذه الحضارة، ثمّ تنطلق لتعيشها في العائلة والمجتمع والدولة، وتعمل على إنثقافها في الثقافات المحليّة بمختلف الأفعال والمبادرات”.

واستطرد قائلًا: “إنّ سرّ المسيح الحاضر أبدًا في استمراريّة ذبيحة الفداء ووليمة جسده ودمه لحياة العالم، هو غاية في الإبداع الصادر عن حبّه اللامحدود، وعن قمّة البذل والعطاء. إنّها حضارة الفنّ المسيحيّ الذي رأى فيه القدّيسون جمال المبدع الإلهيّ”.

وأردف البطريرك الماروني: “هذا السرّ-الحضارة يلقي الضوء على عملكم أيّها الفنّانون، من مسرحيّين وفنانيّ الكلمة المكتوبة والشعريّة، والموسيقى، والغناء والفنون التشكيليّة، وتقنيّات الإتصال الأكثر حداثة وسواها. أنتم تبتغون الجمال في ما تنتجون، وبذلك تواصلون عمل الخالق الذي “كان يرى جميلًا وجميلًأ جدًّا ما أبدعه” (تك 1: 31)”.

وقال: “لا أحد منكم يريد أن يتمّ أيّ شيء من دون أن يكون جميلًا ولو نسبيًّا. والجمال المصنوع يعكس جمال الله الأسمى غير المخلوق. بفضل هذا الجمال الإلهيّ، وجمال إنجازاتكم يولد الرجاء في القلوب بإمكانيّة النهوض من جديد بعد كلّ كبوة. بهذا المعنى كتب المفكّر الروسيّ دستويفسكي: “وحده الجمال سيخلّص العالم”. رسالتكم الفنيّة هي خدمة هذا الجمال”.

الى ذلك، لفت الراعي الى أنّ “جمال الله الظاهر في تحفة إبداعه خلقًا وفداءً التي هي العذراء مريم سيّدة لبنان التي تجمعنا في ظلّها، كذلك جمال إبداعاتكم، يبهج القلوب والعيون عند الناظرين والمشاهدين والسامعين. فنستطيع القول إنّ “هذا العالم الذي نعيش فيه هو بحاجة دائمة إلى الجمال لكي لا يغرق في اللارجاء” (رسالة إلى الفنّانين في ختام المجمع الفاتيكانيّ الثاني في 8 كانون الأوّل 1965)”.

واضاف: “أنتم فنّانون لأنّكم موهوبون وتنعمون بالمواهب المتنوّعة التي هي من الروح القدس الفنّان الوحيد الخفيّ الذي يوزّع مواهبه كما يشاء من أجل الخير العام. نقرأ في سفر التكوين أن “روح الربّ، مثل الريح كان يرفرف على وجه الماء الغامر الأرض قبل البدء بإنجاز الخلق (راجع تك 1: 2). هو الروح إيّاه يهبّ في إبداعاتكم، التي تشهدون فيها لجمال وجه الله “الذي سلّم الأرض إلى الإنسان لكي يحرسها ويحرثها” (تك 2، 15)، محافظًا على جمال خالقها”.

وتابع: “إنّ زميلكم في الفنّ، عزيزنا الأب فادي تابت رئيس هذا المقام المقدّس، اختاركم لهذا الإحتفال الإلهي، لكي يبيّن لكم من جهة أنّ الكنيسة بحاجة إليكم لكي تجعل عالم الله، وعالم اللامنظور، وعالم الروح، محسوسًا، بل أخّاذًا. وأنتم تعبّرون عنه بصياغات فنيّة جميلة. ومن جهة أخرى أنتم بحاجة إلى الكنيسة، لأنّكم في بحث دائم عن المعنى العميق للأشياء وترغبون في التوصّل إلى التعبير بفنون عن العالم الفائق الوصف. الكنيسة من جهتها تقدّم لكم هذا المنبع الإلهيّ وما يطرح من تساؤلات شخصيّة. لا أحد يجهل الرابطة الخاصّة الموجودة بين الفنّ والوحي المسيحي (القديس البابا يوحنّا بولس الثاني: رسالة إلى أهل الفنّ، 12 و 13 (1999)”.

وتوجه الراعي الى “الإخوة وألاخوات الأحبّاء الحاضرون معنا”، بالقول: “كلّ واحد وواحدة منكم ومنّا مدعوٌّ لإبراز وجه من وجوه الجمال مثلًا، جمال الخدمة في العائلة والمجتمع، جمال البذل والتفاني في التخفيف عن كاهل المريض والفقير والمعوّق، جمال السياسة كفنٍّ شريف لخدمة الخير العام، جمال العمل من أجل الوحدة والمصالحة وطيّ صفحة النزاع، جمال قبول المرض كمشاركة في آلام المسيح لفداء العالم، جمال الطالب المنكبّ بكلّ قواه على تحصيل العلم بأحسن درجة”.

وأردف: “جمال المعلّم الذي يعطي من كنز معرفته وأخلاقه، جمال الزوجين في الأمانة على عهد اليوم الأوّل، جمال الكاهن والأسقف المتفانيين في خدمة أبناء رعيّته وأبرشيّته بدون حساب أو تحفّظ، جمال المكرّسين والمكرّسات في اتباع المسيح على طريق المحبّة الكاملة، جمال شجاعة المتخاصمين على المصالحة، وجمال المتحاربين على إسكات السلاح، جمال الخروج من الأنانيّة وإشراك الآخرين بخيرات الله وعطاياه… كل انسان مدعو ليعيش جمالا ما على مستواه ومن موقعه”.

وختم الراعي: “كلّ هذه الأنواع من الجمال وسواها من جمالات الناس والشعوب تعكس قبسًا من جمال الله الذي بكلّ هذه الجمالات نمجّده ونشكره ونسبّحه الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد، الآن وإلى الأبد”.