IMLebanon

هذه قصّة جهاد أزعور وترشيحه

كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”:

مرّت عملية ترشيح الوزير السابق جهاد أزعور إلى رئاسة الجمهورية بأكثر من محطة قبل أن تصل إلى استحقاق جلسة 14 حزيران. لقاءات كثيرة عقدها قبل بلوغ مرحلة الترشيح، أكثرها لم يعلن عنه محاولاً فتح خطوط اتصال مع الجميع للخروج من الأزمة، إدراكاً منه للمهمّة التي يعتبر أنه يمكن أن يقوم بها قبل أن تبدأ الحرب عليه.

ينقل المحيطون بأزعور عنه تعليقه على أمر قبوله الترشح إلى منصب رئاسة الجمهورية بقوله: «ليش لأ؟ وفي إمكانية». وشجّعه على هذا الأمر أكثر أنّه حتى قبل الإتفاق عليه لم يكن يتعرّض للرجم السياسي وللحرب المفتوحة والتكفير حتى من قبل «حزب الله» وأمينه العام السيد حسن نصرالله ورئيس مجلس النواب نبيه بري. فهو قام بخطوة مدروسة وغير متسرّعة. ولكن مجرّد تبنّي ترشيحه من «التيار الوطني الحر» والقوى المعارضة الأخرى قَلَبَ الأمور رأساً على عقب.

لقاءات ومجالس بالأمانات

قبل هذا الإنقلاب التقى أكثر من طرف سياسي. لم يعلِن عن هذه اللقاءات لا هو ولا الذين التقاهم. لقاؤه مع الرئيس نبيه بري مثلاً لم يكن مجرد «تمشاية» في الحديقة في مقر الرئاسة الثانية في عين التينة كما أشيع. كان هناك بحث في الترشيح وكان هناك حوار جدّي مع الأخذ بالإعتبار أنّ الأزمة لا يجب أن تظلّ مقفلة. لم يتمّ البحث في أن يكون رئيس مواجهة أو رأس حربة في مواجهة مع أي طرف، أو مع الداعمين لترشيح رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية لأنّ هذا التحدّي لا يناسب الوضع في لبنان، بل كان تركيز على أن يكون ترشيحه مدخلاً لعملية الإنقاذ.

في الأساس ليست هناك مشكلة شخصية ولا سياسية بين بري وأزعور. على العكس كانت العلاقة جيدة وبداياتها مكوّنة من علاقة الرئيس بري مع خال أزعور النائب السابق جان عبيد، الذي ربطته ببري وبغيره من الأطراف التي تتصدّى اليوم لترشيح أزعور، علاقات جيّدة وكان يمكن أن يكون مرشّحهم في استحقاقات سابقة لأنّ اسمه كان مطروحاً دائماً وكان الإعتراض عليه من أطراف أخرى. الرئيس بري كان صديق جان عبيد من زمان. وبقيت علاقة أزعور ببري جيدة انطلاقاً من تلك العلاقة نظراً للتأثير السياسي والعائلي الذي كان تركه عبيد في أزعور. ولذلك كانت الصبغة العائلية تنعكس في هذه العلاقة التي لا يجب أن تنكسر بسبب ترشّح أزعور.

حكي كثيراً عن لقاء أزعور مع رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد. حصل اللقاء أم لم يحصل؟ تأكيد هذا الأمر يبقى ملك طرفيه. لا أزعور أعلن عنه ولا «حزب الله» كشف عن تفاصيله أو نفى حصوله. ولكن مجرد استقباله في حارة حريك يعني أنّ هناك ما يمكن الحديث عنه والتداول فيه بين الجانبين. لا أزعور استطاع أن يُقنِع «الحزب» بترشيحه وبأهدافه من هذا الترشيح وبأنّه ليس تحدّياً له، ولا هو في موقع الخصومة معه. ولا «الحزب» استطاع أن يُقنِع أزعور بالخروج من المواجهة. طبعاً لا يمكن أن يطلب منه مثل هذا الأمر مباشرة وقد يكون أفهمه ذلك من خلال مقاربته للمعركة الرئاسية وتمسكه بترشيح فرنجية. ولكن ما كانت مثل هذه اللقاءات لتمنع الحملة التي تعرّض لها لاحقاً لأنّه لم ينزل تحت سقف ما يريده «الحزب» منه ومن غيره. فبالنسبة إلى أزعور لم يكن لديه حرج في لقاء أي طرف وإذا حصل مثل هذا اللقاء فهو لا يعني أنه بات متّفقاً معه لأنّ التواصل واجب، وليس عيباً أو انتقاصاً أو تنازلاً عن السقف الذي يحكم مسار التحرك نحو الرئاسة.

التواصل مع جعجع والمستقلين

على هذا الأساس تواصل أزعور مع معظم النواب الذين يعتبرون أنفسهم مستقلين وعبّروا عن عتب عليه لأنّه لم يكن قد تواصل معهم، لا تجاهلاً لهم بل بسبب ظروف عمله في صندوق النقد الدولي الذي يحتّم عليه عدم الظهور الإعلامي أو خوض المعركة علناً وبشكل واضح. حتى النائب كميل شمعون، رئيس حزب «الوطنيين الأحرار»، تواصل معه بعدما أبدى عتباً عليه مع العلم أنه منضوٍ في «تكتل الجمهورية القوية» الذي تبنّى ترشيحه. وهو لديه أصدقاء كثر بين النواب الذين يعتبرون أنفسهم تغييريين والذين لم يعلنوا تأييدهم له بعد.

حكي كثيراً عن تحفظ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع على اسم أزعور. أيضاً لا أزعور أعلن أنّه زار جعجع ولا جعجع أعلن أنّه استقبله. ولكن اللقاء حصل وربما أكثر من مرة. لا خلاف أيضاً بين جعجع و»القوات» وأزعور. التحفظ على ترشيحه كان انطلاقاً من أنّه لم يكن الاسم الذي يمكن أن تُخاض معه المواجهة الأولى في المعركة الرئاسية وكان الخيار قد وقع على النائب ميشال معوض. خلال هذه المرحلة لم يكن من الممكن ولا من المقبول التخلّي عن ترشيح معوّض. أصول المواجهة كانت تقتضي ذلك.

ليس أزعور غريباً عن «القوات اللبنانية» وليست لديه مواقف خلافية معها. على العكس هو ينتمي إلى جيل مواليد 1966 الذي تابع مع «القوات اللبنانية» أيام قائدها بشير الجميل دورات التدريبات العسكرية لطلاب المدارس. من غير المعلوم مدى انخراط أزعور في تلك التجربة ولكنه لم ينضوِ في «القوات» بعدها ولا اختلف معها. بقيت تربطه برئيس «القوات» علاقات هادئة. عندما توفي والد الدكتور جعجع ووالدته شارك أزعور في تقديم واجب العزاء. وعندما توفيت والدته وخاله جان عبيد عزّاه رئيس «القوات».

ما تمّ الإعلان عنه في هذا المجال هو أنّ رئيس «القوات» التقى في معراب رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة، وأن السنيورة فاتحه بموضوع ترشيح أزعور عندما قيل وقتها أنّ جعجع لا يوافق على ترشيحه بعدما كان جنبلاط قد طرح اسمه. هل أقنع السنيورة جعجع بقبول ترشيح أزعور؟ لا شكّ أنّ جعجع يأخذ بالإعتبار رأي السنيورة، ولكن ما يحتّم عليه اتخاذ القرار هو مجموعة معطيات سياسية، عندما تجمّعت لديه أسقط التحفّظ وتبنّى ترشيح أزعور، الأمر الذي نقل المواجهة إلى مداها الأوسع بعد تبنّي رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل هذا الترشيح. ولم تنجح محاولات التركيز على اعتبار أنّ أزعور كان مرشّح باسيل لأنّ العلاقة بينه وبين باسيل لم تكن متقدمة على علاقته بـ»القوات» وجعجع على سبيل المقارنة.

تجارب مع الحص والحريري وكرامي

في كل هذه الموجة من الإتصالات اعتبر المحيطون بأزعور أنّه كان ينطلق من أهمية رهانه على التواصل مع الجميع ولكن تحت سقف اقتناعه بأنّ هذا التواصل لا يعني التنازل عمّا هو مؤمن به، وبأنه يستطيع أن يفعله من الموقع الذي يمكن أن يصل إليه. لم يكن راغباً في تحدّي أحد، ولذلك يزعجه أن يعتبره معارضوه أنّه مرشح تحدّ ومواجهة. هو يهمّه ترميم جذور التواصل من دون التنازل عن قناعاته. وعلى رغم الحملات التي بدأت تُشنّ عليه لا مشكلة عنده في العودة إلى فتح خطوط التواصل.

أكثر من ذلك. حاولت الحملة المضادة لأزعور أن تصوّره أنّه وزير السنيورة وأنّه مسؤول عن هدر مليارات الدولارات خلال مرحلة تولّيه العمل في وزارة المالية. ولكن الواقع ليس كذلك بل معاكس له تماماً. فالدكتور جهاد أزعور دخل إلى وزارة المالية في العام 1999 أيام حكومة الرئيس الدكتور سليم الحص وأيام تولّي الوزير جورج قرم هذه الحقيبة وذلك بسبب خبراته وكفاءاته كمدير لمشروع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الوزارة من أجل «تعزيز القدرات والإدارة المالية».

وكانت تلك الحكومة الأولى التي تشكّلت في عهد الرئيس أميل لحود وشكّلت انقلاباً على الرئيس رفيق الحريري وبداية حامية للصراع معه الذي انتهى باغتياله في 14 شباط 2005. ومنذ ذلك التاريخ بقي في الوزارة كمستشار وكخبير وواضع للخطط وعمل مع الحكومات التي تعاقبت: حكومة الرئيس رفيق الحريري بين العامين 2000 و2004، وحكومة الرئيس عمر كرامي بين أواخر 2004 وشباط 2005، وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي خلال العام 2005، قبل أن يصير وزيراً للمالية في حكومة الرئيس السنيورة. وهو بحكم هذه المسؤوليات التي تولّاها لعب الدور الأساسي في إصلاح المالية العامة ووزارة المالية وفي الإستكشاف المبكر لحالة الإنهيار ولطرق مواجهتها قبل أن تقع الواقعة ويحصل الإنهيار.

ومن خلال هذه الرؤية العلمية كان له الدور الأساسي في التحضير لمؤتمرات باريس 1 و2 و3. ولكن المواجهات السياسية مع الرئيس رفيق الحريري أفشلت هذه المحاولات وأوصلت بعد اغتياله وبعد التحكم بقرارات السلطة إلى الإنيهار الذي حصل عام 2019. وهو بذلك ليس من ضمن ما يسمى المنظومة السياسية التي قادت البلد إلى الإنهيار إنما كان من ضمن الفريق الذي عمل على عدم الوصول إلى هذا الإنهيار ومحاولة الخروج من الأزمة عندما كانت لا تزال في بداياتها.

ومن خلال هذه التجربة بات على اطلاع على واقع هذه الأزمة المالي والسياسي ويمكنه تشخيص المرض وتحديد طرق علاجه. وهو ليس طبعا وصيّاً من صندوق النقد الدولي على لبنان في مرحلة الخروج من الإنهيار، لأنّ الإتفاق بين لبنان وبين الصندوق حصل مع حكومة ما بعد الإنهيار ولم يتدخّل فيه أزعور. وهو في حال أصبح رئيساً للجمهورية سيعمل على تشكيل فريق العمل الذي يمكن أن يقيم لبنان من بين الأموات، ومدركاً أن الرئيس لا حصص له في الحكومات ولا دخل له في المحاصصات التي يجب أن تتوقف.

وبهذا المعنى هو أقرب إلى شخصية الرئيس المطلوب التي وضعت مواصفاتها ثورة 17 تشرين. رئيس غير محسوب على طرف معين. رئيس يمثل طموحات اللبنانيين بالخروج الآمن من الأزمة قادر على إعادة لبنان إلى الخريطة الدولية وإلى دوره الذي كان في طليعة دول المنطقة مع حكومة غير محسوبة على أحد ولا حصص فيها لأحد. حكومة إنقاذ يدعمها الجميع من أجل الإنقاذ، وليس من أجل أن ينتصر طرف على طرف أو يعزل طرف طرفاً آخر. حكومة كفاءات ومنقذين يتمتعون بالشفافية والقدرة على الحركة ولديهم خطة لا أهدافا شخصية. وبهذا المعنى أيضا ليس جهاد أزعور غريباً عن لبنان. فهو بقي فيه حتى العام 2017 عندما انتقل إلى العمل في صندوق النقد الدولي. ومع ذلك لم تنقطع زياراته إلى لبنان ولا إطلالاته على الواقع اللبناني. وهو بحكم عمله في الصندوق يطلّ على مشاكل الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومصر وشمال أفريقيا التي تتفوّق في تعقيداتها على الأزمة اللبنانية.

وهو يعتبر أنه يعيش في قلب البلد «ولو كان برّا». لقد اشتغل لمصلحة البلد ولم يدخل إلى وزارة المالية من أجل أن يسترزق. لم يكن من المنظومة. وعندما خرج من العمل في الدولة عاد إلى حياته المهنية في القطاع الخاص. لا يهمّه عدد الأصوات التي يمكن أن ينالها إذا عقدت جلسة الإنتخاب، ولا أن يحقق فوزاً على أي كان. ما يهمّه هو استعادة الثقة بلبنان واستعادة الدولة والجمهورية والخروج من المأزق الذي يبقى النجاح فيه انتصاراً لكل من يؤمن بهذا الدور وبهذا الهدف، ولكل من يهمّه بقاء لبنان.