IMLebanon

مصائب “4 آب” عند بعض الـ”NGOs” فوائد

كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:

لما نُحرت بيروت في 4 آب 2020، تراءى لنا أن العالم بأسره – من أقرب الأقربين إلى أبعد الأبعدين – إما ذرف دموع التعاطُف أو هبّ لنجدتها. لكن ذلك التاريخ يبدو بعد ثلاث سنوات كماضٍ سحيق، سحيق. الفاعل مجهول والبحث عنه قد يطول ويطول. أما المدينة، فتُحاول الإنبعاث من جديد بخطوة إلى الأمام وخطوات إلى الخلف. صحيح أن ثمة من يحاول أن يبقي الشهداء الراحلين في الأذهان وقضيّتهم – مع الأحياء منهم – على قيد الحياة. لكن البلد ليس على ما يُرام. وبيروت المنحورة ليست أفضل حالاً. المنظمات غير الحكومية كانت مِن بين مَن هبّوا للمساعدة. وتلك حكاية أخرى.

لم تمرّ فترة طويلة على عملية الإعدام الجماعي في 4 آب حتى تعهّد المجتمع الدولي بإعادة إعمار المدينة المنكوبة حتى الصميم. ونظراً لفساد السلطة الحاكمة الموصوف، اتّجهت الأنظار إلى منظمات المجتمع المدني تحديداً. مذّاك، شُبهات كثيرة طالت عمل العديد من تلك المنظمات غير الحكومية (NGOs) كما انتماءات القيّمين عليها، فراح البعض يتكلّم عن حسابات سياسية أو تضارُب مصالح أو مزيج من الاثنين. هذا في وقت ما زالت معظم بيوت الأشرفية المتضرّرة، مثلاً، متعطّشة إلى ترميم. ما حقيقة الهجمة التي قادتها تلك المنظمات، من يقف وراءها وهل من أهداف غير معلنة لنشاطها؟ ثم هل أصبح مشرّعاً استغلال كلّ أزمة داخلية لتحقيق مآرب داخلية بأبعاد خارجية أو العكس؟

وُلد «القطاع الثالث»، الذي يأتي بعد القطاعين الخاص والعام والمؤلّف من منظمات غير حكومية لا تبغي الربح من حيث المبدأ، بعد ثورة «17 تشرين» مباشرة. حينها، للتذكير، أعربت المؤسسات الدولية المانحة عن حاجتها إلى استبدال الدولة «الناهبة» بمنظمات تعمل بشفافية ويمكن الاعتماد عليها في الدفاع عن مصالح الشعب اللبناني وحقوقه. فكانت ثورة الـNGOs التي أضفت، بنظر كثيرين، على حال الفساد في البلاد بُعداً أوسع بسبب ارتباط العديد منها بـ»أجندات» خارجية، مشكّلة فرصة لتدخّل دولي أعمق في لبنان دون المرور بمؤسسات الدولة الرسمية.

أين الأموال؟

هنا مثال بالأرقام. في آب 2020، أطلقت «Impact Lebanon» – وهي منظمة غير حكومية لا تبغي الربح أسّستها مجموعة من المغتربين اللبنانيين في لندن إثر أحدات تشرين – حملة لجمع التبرعات من الجمعيات الدولية واللبنانيين المغتربين لإنجاز أعمال الإغاثة جرّاء «مقتلة» المرفأ. كما تعاونت مع مؤسسة “LIFE” ومؤسسة “QA3” لغرض اختيار المنظمات غير الحكومية التي سيتمّ العمل معها بهدف تنفيذ ومراقبة المشاريع المموّلة من الخارج.

تمكّنت «Impact Lebanon» من جمع مبلغ قدره 9,152,759 دولاراً أميركياً من أربعة مصادر مانحة مختلفة (البيان رقم 1)، وقامت بتوزيع 8,830,768 دولاراً على 18 منظمة غير حكومية داخل لبنان (البيان رقم 2). من أصل ذلك المبلغ، صُرف، بحسب بيانات «Impact Lebanon»، ما قيمته 7,639,551 دولاراً (البيان رقم 3). لكن المفاجأة حلّت حين أظهرت بيانات المنظمات غير الحكومية أن التمويل الذي حصلت عليه من»Impact Lebanon» لم يتعدَّ الـ3.8 ملايين دولار. فماذا عن الـ5 ملايين دولار ونيّف المتبقية؟ لا شك أن عدم الشفافية في الإعلان عن حسابات هذه المنظمات وتمنّعها عن تقديم تقارير سنوية تخضع لعملية تدقيق حسابي شرّع التلاعب بالأرقام وتحويل المساعدات المخصّصة للمتضرّرين إلى جيوب المستفيدين. فما كان من بعضها إلّا أن أوقفت مواقعها الإلكترونية عن العمل، تجنّباً لفضائح الأرقام العشوائية التي كانت «تكبّها» هنا وهناك.

 

وهذا يستدرج السؤال الأبرز: أين ذهبت أموال 4 آب؟ يقول المحامي علي عباس، في حديث لـ»نداء الوطن»، إن التبرعات وصلت بالملايين إلى المتضرّرين من الانفجار، لكن لم يكن هناك أي متابعة للمنظمات التي حصلت على التبرعات ولكيفية قيامها بالصرف. فقد تبرّعت الجهات المانحة بثقة عمياء نتيجة الشعور بفائض من الغضب الذي ولّدته مشاهد 4 آب المؤلمة، باعتبار أن المنظمات التي تجمع التبرعات جدّ موثوقة وذلك نتيجة الدعاية والحملات الإعلانية التي روّجت لنفسها عبرها مظهرة مساعداتها وتضحياتها أمام المتضرّرين. غير أن الواقع كان عكس ذلك، إذ إن المستفيد الأكبر كانت المنظمات نفسها وليس الشعب المسكين. «إنه الفساد المستشري في الدولة لكن بحلّة جديدة، خاصة وأن معظم مؤسّسي المنظمات تلك هم من أبناء أو أقارب أو حتى مقرّبين من أفراد الطبقة السياسية المتّهمة بالفساد. وكأن سرقة المال العام لم تكفم فتحوّلوا إلى سرقة الشعب المصاب الذي لم يحصل إلّا على فتات ما خصّته به الجهات المانحة»، بحسب عباس.

تحت ستار «المساعدة»

فكيف، والحال كذلك، نشطت هذه المنظمات ومن أين استمدّت دعمها؟ تعتمد الجمعيات بشكل أساسي على تمويل المنظمات الدولية والمغتربين اللبنانيين، وينشط عملها بطبيعة الحال عند حصول أي كارثة – 4 آب كانت أكبرها لكنها ليست الوحيدة. بيد أن العامل الرئيس الذي ساهم في هذه «الفوعة» غير المسبوقة هو تفادي المانحين إرسال أي مساعدة عن طريق الحكومة (أو القنوات الرسمية) بعد أن ثبت فساد المنظومة وأركانها للقاصي والداني. وبالتالي، لم يكن أمامهم سوى البحث عن أشخاص يتمتعون بشبكة علاقات متينة تمكّنهم من الوصول إلى الجهات المانحة وتأسيس منظمات غير حكومية لتحقيق المآرب المرجوّة. «الأهداف المعلنة غالباً ما تكون المساعدة، لكن ما يحصل في الواقع هو «نهب» لهذه المساعدات. صحيح أن المنظمات قامت بإصلاحات معيّنة، لكن هل بلغت كلفة الإصلاحات تلك قيمة الهبات التي حصلت عليها؟ ومن يؤكّد مثلاً أن الأموال التي خُصّصت لترميم ثلاثة مبانٍ في الجمّيزة قد صُرفت كاملة في عملية الترميم؟ ومن يراقب ما إذا كان هناك استنسابية في اختيار العائلات التي يجب مساعدتها؟»، كما يتساءل عباس.

وتبقى الإجابات مبهمة في ظلّ غياب الرقابة والتدقيق في الحسابات. علماً أن كون المنظمات تلك لا تبغي الربح يفرض عليها تقديم تقارير شفافة عن كيفية استخدامها للمبالغ التي حصلت عليها مع التبرّع بالفائض – في حال توافره – إلى جمعيات خيرية. «لكن للأسف، هذه المنظمات تعمل بطريقة تخفي فيها الهدر والمكاسب المحقّقة، فتُعطي القليل لِتَنعم بالكثير. وقد بدأت الشكوك تتأكّد حول ممارسات أصحاب بعضها الذين يقومون بأعمال تجارية خاصة بهم. إذ كيف لصاحب جمعية أن يمتلك سلسلة مطاعم أو مقاهٍ ليلية فجأة؟»، والكلام دوماً لعباس الذي طالب المراجع القضائية بفتح تحقيق شامل حول هدر أموال الجهات المانحة.

قناع سياسي – إنتخابي

في سياق متّصل، أكدت مصادر متابعة للملف لـ»نداء الوطن» أن أموال 4 آب إنما جاءت لإعادة الفريش دولار إلى جيوب الذين انخرطوا في المجال السياسي تحت ذريعة الثورة، أي بمعنى آخر، هو مال انتخابي استفاد منه أصحاب المنظمات لتحقيق «تغيير مزيّف». فما علاقة الـNGOs بالمصالح السياسية؟ سؤال آخر توجّهنا به إلى عباس ليجيب: «لا شك أن هذه المنظمات تمكّنت من خرق الثورة بحجّة محاربة الفساد والحفاظ على حقوق الإنسان، من خلال إقامة النشاطات ومساعدة الموقوفين والجرحى كما تقديم الطعام في الساحات ونصب الخيم. فكانت النتيجة توجيه مطالب الثورة في اتّجاه معيّن ما أدّى إلى شرذمتها من قِبَل الجهات التي تلطّت خلف المنظمات إيّاها». وكلّ ذلك لا بدّ من أن يطرح الكثير من التساؤلات حول الدور السياسي الذي يلعبه هؤلاء في الداخل اللبناني، ولحساب من.

فثمة منظمات كانت موجودة على الأرض. لكنها راحت فجأة، خلال الانتخابات، تقوم بإطلاق منصّات دعماً لعدد كبير من المرشحين. وكان واضحاً أن مصدر ذلك الدعم هو الجهات المانحة التي لعبت دوراً أساسياً في الانتخابات الأخيرة. وإن لم يكن ذلك دليلاً قاطعاً على استخدام الأموال لغايات سياسية خلال الانتخابات، تبلورت بدعم بعض المرشحين من خلال حملات إعلانية صُرف عليها الكثير، فماذا يكون؟ «إن أي جمعية أنشئت مؤخراً هي ظلّ لشخصيات تتحكم بها لإيصال رسائل سياسية معيّنة. فهناك أحزاب تقليدية وجِهات سياسية معروفة في البلد ومشهود لها بفسادها وهدرها للمال العام تلطّت خلف هذه الجمعيات التي تتمتع بعلاقات دولية قوية، ما منح هؤلاء القدرة على جذب الأموال لتنفيذ غايات ظاهرها تطوّعي اجتماعي وباطنها سياسي».

تهجير ممنهج

الأشرفية كانت في قلب الحدث. لا بل فوق فوهة بركانه. ولسائل كُثرٍ من السكان هناك أن يسمع كلاماً فحواه أن تصليحات المنازل بمعظمها كانت خارجية، في حين أن عدداً لا بأس به منها لم يجرِ ترميمه حتى الساعة. نسمع أيضاً أن بعض المنازل هُدمت لتحلّ مكانها المطاعم والملاهي الليلية. ليس هذا وحسب. فوشوشات من هنا وهناك تغمز من منظار «تواطؤ» ما بين كلّ من المنظمات غير الحكومية وجهات تدور في فلك بلدية بيروت ومحافظتها وبعض السياسيين لإصدار تقارير تفيد بضرورة إخلاء بعض المنازل كون المباني مهدّدة بالانهيار، ليتبيّن بعدها أن التقارير مزوّرة. فكيف حصل ذلك؟ مصادر مطّلعة أفادت «نداء الوطن» بأن بعض المالكين تمكّنوا بالـ»واسطة» – أي على الطريقة اللبنانية البحتة – من الضغط على البلدية للحصول على تقارير مفادها أن المباني المعنية غير قابلة للترميم ما يستلزم إخلاءها. وبهذه الطريقة، يتخلّص المالكون من «وجعة رأس» المستأجرين القدامى مستفيدين من العقارات للقيام بمشاريع جديدة ذات مردود مادي أعلى. مثلاً، لا يزال أحد المباني في «مار نقولا» شاهداً على ذلك، بعد أن حُكم عليه بالهدم قبل أن تتمّ الاستعانة بخبراء أوروبيين ليؤكّدوا إمكانية ترميمه بعد إجراء عملية الكشف. وأمور مشابهة حصلت أيضاً في الجمّيزة والمدوّر ومار مخايل.

ونستفيض أكثر. فبعد الانفجار، عمدت بلدية بيروت إلى الطلب من المنظمات غير الحكومية جمع التبرعات لإعادة ترميم الأبنية المتضرّرة، بعد تحديدها بناء على تقارير المهندسين. ورغم ذلك، مُنع المواطنون من الدخول إلى منازلهم حتى لو لم تكن من ضمن تلك المصنّفة بالخطرة. عندها علت أصوات المستأجرين فتدخّل الجيش اللبناني للاطّلاع على تقارير البلدية، ليتكشّف بعدها أنها لا ترتكز على أي معايير هندسية علمية. فما كان من الجيش إلّا أن استلم عملية إعادة التقييم واتّخذ قراراً بإعادة تدعيم كافة المباني حتى تلك التي لا خطر عليها. وبعد عامين كاملَين من المعاناة، توجّه عدد من المستأجرين القدامى إلى منازلهم ليتفاجأوا بإنذار من وكيل المالك مرفق بقرار موقّع من محافظ بيروت، القاضي مروان عبود، يقضي بإخلاء الأبنية حفاظاً على السلامة العامة، رغم أنه قد تمّ تدعيمها بإشراف الجيش. وبعد الاستحصال على قائمة بتكاليف التصليحات، وجد المستأجرون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما تسديد مبالغ طائلة أو «تحميلهم مسؤولية أي ضرر أو أذى يمكن أن يلحق بالغير نتيجة انهيار المبنى جزئياً أو كلياً تحت طائلة التقدّم بحقّهم بدعاوى مالية وإفلاسية وحجز أموالهم المنقولة». فكانت النتيجة تهجير المستأجرين دون أي تعويض.

«إستلشاق» وأكثر

المنظمات تسرح وتمرح بلا حسيب ولا رقيب وبتمويل (إن لم نقل توجيه) خارجي. هكذا يختصر مراقبون واقع الحال. فمن يضبط عملها؟ يرى المحامي والأستاذ الجامعي، الدكتور عادل يمين، في حديث لـ»نداء الوطن» أنه لا يُفترض بالجمعية، من حيث المبدأ القانوني، أن تتلقى أموالاً من دول أجنبية ومنظمات خارجية، وذلك بحسب قانون الجمعيات رقم 1909. كما أنه يُفترض بها تقديم موازناتها وقطع حساباتها إلى وزارة الداخلية والبلديات. «من هذا الباب يمكن الدخول للتأكد من المبالغ التي تلقّتها هذه الجمعيات وكيفية صرفها، لا سيّما وأن الكثير من علامات الاستفهام تُطرح بعد أن كَثُرَ الحديث عن مبالغ هائلة تدفّقت إليها. وهنا يجب أن يصار إلى شكل من أشكال التحقيق للتثبّت مما إذا كان ما تمّت جبايته تحت عنوان «مساعدة ضحايا أو متضرّري انفجار المرفأ» قد جرى إنفاقه في الوجهة الصحيحة، أم أن هناك مزاريب هدر وفساد»، من وجهة نظر يمين.

لكن من هي الجهة المخوّلة القيام بهكذا تحقيق؟ تُعتبر وزارة الداخلية والبلديات معنيّة كونها المشرفة على الجمعيات بشكل أو بآخر. صحيح أن الوزارة لا تتمتع برقابة مباشرة ولا بسلطة أو وصاية على المنظمات غير الحكومية، لكن وبحسب قانون الجمعيات رقم 1909 الذي صدر أيام السلطنة العثمانية وما زال ساري المفعول حتى اليوم، على الجمعيات أن تعطى العلم والخبر في تأسيسها وأن تقدّم مشروع موازنة سنوياً وقطع حساب للسنوات السابقة. «فإذا شعرت وزارة الداخلية والبلديات أو حتى أجهزة الدولة الأمنية بأي خلل في الأرقام، أو في حال وردتها معلومات عن إنفاق غير شرعي وشبهات أخرى، يحق للنيابة العامة أن تتحرّك بناء على إخبار من الوزارة»، كما يشير يمين.

مصادر واسعة الاطلاع على آلية عمل وزارة الداخلية والبلديات شدّدت لـ»نداء الوطن» على أن «الاستلشاق» حال دون مراقبة عمل هذه المنظمات، وجاءت ثورة تشرين وجائحة كورونا كي «يفلت الملقّ عالآخر» تزامناً مع تحلّل مؤسسات الدولة. وهذا لا يعفي عدداً من السفارات من المسؤولية عبر تمويل جهات مقرّبة منها عن طريق المنظمات، في حين أن بعضها الآخر كان على تماس مع أجهزة أمنية لتجييش بعض الجماعات تحقيقاً لأهداف معيّنة. فهل من المقبول التذرّع بحجج على شاكلة أوضاع البلد المريرة لتسهيل ما يبدو انتقالاً سلساً من فساد إلى آخر؟