IMLebanon

شَلَلُ تطوير المناهج التربوية: إن لم يكن الآن… فمتى؟

كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:

مع انطلاق عجلة كل عام دراسي، تقفز قضية تطوير المناهج التربوية إلى الواجهة مجدّداً. فالتطوير الذي قام البنك الدولي بتمويله بموجب قرض بقيمة 204 ملايين دولار في العام 2017 لم ينتج عنه حتى الساعة سوى الإطار الوطني للمناهج الجديدة. هذا إضافة إلى بعض الأوراق المسانِدة له، لا أكثر. شباط 2024 هو تاريخ انتهاء مفاعيل القرض التمويلي. فهل سيتمكّن المركز التربوي للبحوث والإنماء في الأشهر الستة المتبقّية من إنجاز ما لم يُنجز طيلة ستّ سنوات خلت؟

شكوك كثيرة تحوم حول عرقلة المشروع «التطويري». فيما التساؤلات تتراكم يوماً بعد يوم فوق ديون القرض المتراكمة هي الأخرى على كاهل الشعب اللبناني. وهي تتمحور حول دور التدخّلات السياسية والمحسوبيات في العرقلة؛ المعيار الذي تمّ اختيار أعضاء اللجان على أساسه؛ مراقبة عملية الصرف في ظل ضبابية تامة «تغطّي» حسابات المشروع؛ وبقاء مصير المناهج التربوية رهن تنفيعات «جماعة الوزير» على حساب التربية والمستوى التعليمي. نحاول أن نعرف أكثر في زيارة لـ»نداء الوطن» إلى المركز التربوي للبحوث والإنماء. التقينا كلّاً من رئيسة المركز، البروفيسورة هيام إسحق، منسّق عام مشروع تطوير المناهج، الدكتور جهاد صليبا، وأمين السرّ العام للمنسقية العامة لتطوير المناهج، الأستاذ أكرم سابق. وبعد ما سمعناه هناك، أصغينا إلى المزيد من الأستاذة والنقابية، سهام أنطون، التي شرحت لنا بدورها تفاصيل ما يدور في أروقة وزارة التربية. فكان ما يلي.

تمثيل طائفي – سياسي

يخبرنا صليبا أن المناهج التربوية لم تُجدَّد منذ العام 1997 رغم أن تجديدها مطلوب كل ثلاث سنوات، فكان لا بدّ للمركز من القيام بهذه الورشة. أما إسحق – التي طلبت الفصل بين ما قبل أيار 2022، تاريخ استلامها رئاسة المركز، وما بعده باعتبارها غير مسؤولة عن المرحلة السابقة – فاعتبرت أن المناهج تقوم بإعداد مواطن للمستقبل، حيث من الطبيعي مشاركة كافة فئات الوطن في وضعها. فهل تمّ الحصول على موافقة القوى السياسية الأساسية وإشراك كافة المدارس في إنجاز الإطار الوطني والأوراق العشر المسانِدة له؟ «نحن لا نأخذ بآراء السياسيين إنما نعمل بطريقة تربوية، لكن المدارس تتبع حكماً لجهات معيّنة. وقد طلبنا ممثّلين عن المدارس الخاصة التي يضمّها الاتحاد كما توجّهنا إلى باقي المدارس الخاصة والجامعات التي تمثّلت بـ53 رئيساً، إضافة إلى كافة المعنيين من أجل تمثيل شامل وتفادياً لأي إشكالية أو اعتراض»، كما تجيب إسحق. لكن، في هذا السياق، تتساءل أنطون عن أسباب تغييب تمثيل المدارس الرسمية والنقابات والروابط عن كافة أجزاء العمل التي أُنجزت إلى اليوم، في حين أن كبار المسؤولين عن المدارس الطائفية الطابع حاضرون دوماً في المركز وصوتهم مسموع أكثر من أي طرف آخر.

«صحيح أن ورشة المناهج هي ورشة وطنية تستدعي مشاركة التربويين، لكن المركز حوّلها من أداة تشارُكية إلى قناة لتأمين الخدمات السياسية والتنفيعات. ويبدو ذلك واضحاً بين منسّقي الأوراق الداعمة للإطار الوطني إذ إن أربعة منهم محسوبون على فريق وزير التربية السياسي. كذلك، من بين أعضاء اللجان، جرى تعيين أحد كبار القضاة – وهو رئيس سابق لمجلس شورى الدولة ورئيس سابق لمجلس القضاء الأعلى – كمستشار حقوقي. فهل يتطلّب وضع المناهج إشراك هذا المستوى من القضاة أم أنها وسيلة للتنفيع؟»، تتساءل أنطون، مؤكّدة أن معظم التعيينات يحصل تبعاً لعلاقات المعيّنين السياسية ولانتماءاتهم الطائفية على حساب الكفاءة، خاصة أن كثيرين منهم لا يحملون إجازات أو حتى خبرات سابقة.

ومحسوبون على الوزير

نكمل مع أنطون التي أشارت إلى أن إجراءات كثيرة تغيّرت منذ استلام وزير التربية الحالي، عباس الحلبي، حيث أوقف العمل بقرارات سلفه، طارق المجذوب، التي كان يحاول من خلالها ضبط بعض أبواب الهدر والفساد في وزارة التربية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، عمد المركز، منذ سنوات طويلة، إلى توقيع عقود مع أشخاص من خارجه لا مهام واضحة لهم ولا يحضرون أصلاً. وقد بلغت هذه العقود أوجها قبل انتخابات 2018 النيابية. وعند استلام المجذوب الوزارة في العام 2020 رفض التوقيع على هذه العقود مصرّاً على إلغائها بوصفها هدراً مالياً بلا مردود. «لكن للأسف، أعاد الوزير الحلبي توقيع بعضٍ من العقود خاصة مع من ينتمون إلى فريقه السياسي وهم معروفون داخل المركز وبالأسماء. فإضافة إلى الرواتب التي يتقاضونها، رغم أنها هزيلة، تمّ وضعهم على لائحة رواتب القرض والهبة وإدخالهم في ورشة المناهج للتنفيعات علناً»، والكلام دوماً لأنطون.

ماذا عن الأشخاص الذين أوكلت إليهم أكثر من مهمة؟ تجيب أنطون بأن بعض المقرّبين من الوزير تمّ تعيينهم في أكثر من لجنة ويعملون على عدد من المشاريع التي يتقاضون عليها عائدات ورواتب متعدّدة دون أن يكون لديهم أي خلفية معرفية بهذه المهام. «لقد علِمنا من داخل المركز أن بعض اللجان التي يتولاها هؤلاء تقوم بتسجيل محاضر اجتماعات وهمية ليتمّ تقاضي مئات الدولارات عليها. فهذا لا يبرّر إبعاد كثيرين من أصحاب الكفاءات وحصر المهام ببعض المحظيين بدعم الوزير». عن تلك المعلومات بالتحديد يقول صليبا إنها لا تراعي الواقع. فمنذ استلام الحلبي الوزارة وإسحق رئاسة المركز، وُضعت معايير واضحة للتوظيف. لكن بعض الأشخاص، وبِحكم مهامهم وعملهم، يتمتعون بفعالية أعلى في العمل. «منسقة الهيئة الأكاديمية مثلاً، العاملة هناك منذ أكثر من 20 سنة، تشارك في وضع المناهج كون الهيئة الأكاديمية هي المخوّلة فعلياً بذلك. لكن يبدو أن من يتكلمون بهذه الطريقة إما لا يملكون الصورة الكاملة أو ثمة صورة معيّنة وُضعت أمامهم».

خبرات في مهبّ المحاصصة

نعود إلى إسحق لنستوضح المعايير التي جرى اعتمادها لاختيار خبراء تطوير المناهج، فتلفت إلى أشخاص ذوي خبرة تربوية كبيرة مثل عمداء كلّيات التربية وباحثين ومؤلّفين يتمتعون بخبرات دولية وملمّين بروحية المناهج اللبنانية. «لقد وضعنا معايير قاسية تمّت على أساسها عملية الاختيار، بدءاً بالشهادات المطلوبة وبخبرة لا تقلّ عن 15 سنة في مجال التربية. علماً أن المتقدّمين خضعوا لثلاثة امتحانات متتالية قبل قبولهم». لكن، لأنطون رأي مخالف، إذ اعتبرت أن المركز أطاح، عند التطبيق، بكافة المعايير المعتمدة، والدليل أن بعض منسّقي اللجان لا يملك إجازة أو أي خبرة سابقة في ما خصّ وضع المناهج التربوية. وأضافت: «هناك تجارب سابقة في المركز لتطوير المناهج وقد أتى بخبرات دولية للقيام بالمهمة وكان أثرها أساسياً وكبيراً. فهل العاملون الحاليون يعلمون بهذا الأمر؟ طبعاً لا، لأن أصحاب الخبرة في المركز ومن شاركوا في وضع مناهج العام 1997 أو محاولة تطويرها في العام 2011 تمّ استبعادهم لعدم خضوعهم لمبدأ المحاصصة وأوامر البعض، بل كانوا صوتاً معارضاً في وجه ما يحصل داخل المركز».

وتتابع أنطون أنه بحسب الخبراء، تبيّن أن الإطار العام للمناهج، والذي أمضى المركز سنوات طويلة لإنجازه، فارغ من المضمون ما اضطره إلى تطوير عشر أوراق تربوية استكمالاً له. وهذا ما يؤكّد أن من يقومون بالمهام لا يتمتعون بالكفاءات المناسبة والدليل أن مخرجات عملهم ليست بالمستوى المطلوب. «منذ العام 2017 يقوم المركز بصرف رواتب لأشخاص موكلين تطوير المناهج – بينهم موظفو برنامج البنك الدولي ومستشارون وأساتذة ملحقون بالمركز – دون أي إنجاز يُذكر. أليس هذا هدراً للوقت والمال والجهد؟». فموظفو مشروع البنك الدولي في المركز يتقاضون سنوياً حوالى مليون دولار، بينما بلغ راتب أحد المستشارين 6 آلاف دولار. وتجدر الإشارة إلى أن الوزير المجذوب أصدر قراراً قضى بتقاضي الرواتب على سعر صرف 1500 ليرة، أسوة بموظفي القطاع العام، ليعود الوزير الحلبي ويلغيه طالباً تسديد الرواتب بالـ»فريش دولار».

بحثاً عن الشفافية

منعاً للشكوك، لِمَ لا تُنشر المبالغ التي تُصرف على اللجان بشفافية أمام المواطن الذي سيُسدّد قيمة القرض من جيبه «الضريبي»؟ سؤال آخر توجّهنا به إلى إسحق التي أوضحت أن الهبات تدخل حساب وزارة التربية، لا المركز، وأن الأخير يسدّد ما يُصرف ربطاً بما ينفَّذ. ويعقّب صليبا: «لم تتخطَّ المصاريف مئات الآلاف لكن لا يمكننا الكشف عن الأرقام دون إذن من الوزير. لا أريد أن أدخل في متاهات ما حصل سابقاً لكنني أؤكد أننا نصرف منذ العام الماضي من خلال جدول يحدّد المبلغ الذي يتقاضاه كل شخص بحسب اختصاصه ووظيفته وساعات إنتاجه. نفهم الهجوم الذي يُشنّ علينا خاصة أن اللبنانيين فقدوا ثقتهم بمؤسسات الدولة، لكن آليات التمويل واضحة وهناك جهة دولية تقوم بمراقبتنا إضافة إلى تدقيق وزارة التربية».

هنا، رأت أنطون أن للمركز الحقّ في الإعلان عن مصاريفه كونه مؤسسة عامة مستقلة ولديه موازنة خاصة، بينما يقوم باستمرار بتقديم موازنته إلى وزارة المالية ليحصل منها على التمويل. «إن عدم الإفصاح عن المبالغ والمشاريع والمستفيدين يثير علامات استفهام كثيرة ويحدّ من ثقتنا وثقة الشعب اللبناني ويؤكّد شكوكنا حيال شبهات الفساد داخل المركز. أعيد وأكرّر تأكيدي أن الكشف عن الحسابات سيُظهر فَرقاً شاسعاً بين ما يتقاضاه المقرّبون من بعض الجهات السياسية وبين الآخرين». وإذ استغربت أنطون عرض المركز نتيجة الأوراق العشر على لجنة التربية النيابية دون تفسير آلية صرف المبالغ، أشارت إلى اعتماده على مبدأ تجزئة المبالغ ما يخالف أبسط القواعد المحاسبية. وبالتالي، ثمة ضرورة لإضافة رواتب موظفي البنك الدولي الملحقين بالمركز ومصاريف اللجان والمشاريع التي تمّ تمويلها من الهبة وباقي مصاريف المستشارين والموظفين.

وجهتا نظرٍ على طرفَي نقيض. لكن بعيداً عن الحسابات والمحسوبيات، ننتقل إلى المخرجات والمنتجات، لنسأل: ماذا حقّق مشروع المناهج التعليمية حتى الساعة، وهل ستُبصر الأخيرة النور قبل انتهاء مفاعيل التمويل في شباط المقبل؟ ثم هل لطلاب لبنان أن يحلموا بمناهج حديثة متطوّرة تراعي التطور الفكري – الاجتماعي العالمي؟ الإجابات في الجزء الثاني.