IMLebanon

بكركي وحارة حريك من صفير إلى الراعي

كتب نجم الهاشم في “نداء الوطن”: 

منذ انتخاب المطران نصرالله صفير بطريركاً على الكنيسة المارونية في 19 نيسان 1986، لم ترتقِ علاقة بكركي مع «حزب الله» إلى مستوى أعلى من المجاملات في المناسبات. تعزية البطريرك الراعي النائب محمد رعد، خلال استقباله نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب، لا تخرج عن هذا الإطار. الطابع الغالب على هذه العلاقة بقي دائماً ضمن دائرة التوتر والإنتقاد وصولاً إلى حدّ تجريح الحزب ومناصريه ببكركي، ووصف البطريرك الراعي بالصهيوني.
عندما انتخب صفير بطريركاً لم يكن قد مضى على «الرسالة المفتوحة» التي أعلنها «حزب الله» في 16 شباط 1985 إلا سنة واحدة، وكانت صريحة ومباشرة في صياغتها أهداف الحزب وتطلعاته وموقفه من المسيحيين في لبنان ومن الدولة اللبنانية. لذلك لم يكن من موعد للتلاقي بين صفير وبين «الحزب» ومَن يمثّله في تلك المرحلة على أي هدف خصوصاً أنّ لبنان كان لا يزال في حالة حرب وكان «الحزب» يمهّد الطريق للسيطرة على البيئة الشيعية أولاً، تمهيداً للسيطرة على القرار اللبناني تحت شعاراته المنادية بتحرير القدس والقضاء على إسرائيل.

بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاغتيال الشيخ راغب حرب، تلا الناطق الرسمي باسم «حزب الله» وقتذاك السيد إبراهيم أمين السيد، الرسالة المفتوحة التي وجّهها «حزب الله» إلى المستضعفين في لبنان والعالم، من حسينية الشياح في الضاحية الجنوبية واعتبرت بمثابة الإطلالة الرسمية الأولى للحزب، بعد أقل من 3 سنوات من العمل السري. هذه الرسالة المفتوحة شكّلت أول وثيقة يحدّد فيها «الحزب» مواقفه من قضايا كثيرة، على كافة الصعد الوطنية والإقليمية والعالمية. ومنها:

1 – أن تخرج إسرائيل من لبنان كمقدمة لإزالتها من الوجود، وتحرير القدس من براثن الاحتلال.

2 – أن تخرج أميركا وفرنسا وحلفاؤهما من لبنان، وينتهي أي نفوذ لأي دولة استعمارية في البلاد.

3 – أن يرضخ الكتائبيون للحكم العادل ويُحاكَموا جميعاً على الجرائم التي ارتكبوها بحق المسلمين والمسيحيين بتشجيع من أميركا وإسرائيل.

4 – أن يُتاح لجميع أبناء شعبنا أن يُقرروا مصيرهم ويختاروا بكامل حريتهم شكل نظام الحكم الذي يريدونه، علماً أننا لا نخفي التزامنا بحكم الإسلام. وندعو الجميع إلى اختيار النظام الإسلامي الذي يكفل وحده العدل والكرامة للجميع، ويمنع وحده أي محاولة للتسلل الاستعماري إلى بلادنا من جديد.

أما عن القوة العسكرية فقد جاء في الرسالة: «في ما يتعلق بقوتنا العسكرية، لا يستطيع أحد تصوّر أبعادها لأننا لا نملك جهازاً عسكرياً منفصلاً عن الأجزاء الأخرى من منظمتنا. كل واحد منّا هو جندي مقاتل متى استدعت الدعوة للجهاد، وكل واحد منا يتولّى مهمته في المعركة وفقاً لتكليفه الشرعي في إطار العمل بولاية الفقيه القائد».

مثّل البطريرك صفير النقيض التام لتلك «الرسالة المفتوحة» وللأهداف التي أعلن عنها «الحزب». وهو في علاقته مع هذه الحالة الناشئة عبَر مرحلتين: الأولى خلال الحرب حتى العام 1989 والثانية بعدها منذ اتفاق الطائف الذي عارضه «الحزب» لأنّه اعتبر أنّه سيبقى عقبة أمام دولته الإسلامية، ولذلك بقي يعمل على تحويل هذا الإتفاق إلى وسيلة للسيطرة على السلطة من دون تغيير النظام.

ولذلك كان الصدام مع البطريرك صفير حتمياً بعد اتفاق الطائف. فقد وقف البطريرك بقوة ضدّ بقاء السلاح مع «حزب الله» وبقي يطالب بجيش واحد لا بجيشين، وبسلاح واحد لا بسلاحين، معتبراً أنّ العربة التي يجرّها من كل جهة حصان تبقى في مكانها. وهو فوق ذلك لم يتوانَ عن الإعلان أنّه «إذا خُيِّرنا بين الحرية والعيش المشترك سنختار الحرية» مستعيداً تاريخ الحضور المسيحي في لبنان وهذا الشرق والصليب الذي قُدِّر لهم أن يحملوه.

موقف البطريرك صفير لم يكن عابراً في مرحلة جريمة تفجير كنيسة سيدة النجاة في زوق مكايل وخلال مرحلة المحاكمات. فهو كان اطلع من أحد المتهمين في القضية، المصري نبيل مرسي علي، على مخطّط لتفجير الكنائس في المناطق الشرقية لمنع زيارة قداسة البابا إلى لبنان في أيار 1994. وكان أحد عناصر «حزب الله» قد عرض الأمر على نبيل من دون معرفته بأنّه بدّل دينه ويريد أن يتزوّج من مسيحية ويرغب بالحصول على الجنسية اللبنانية. وقد عبّر أمين سر البطريرك، الأب ميشال عويط، عن رأي بكركي من هذا الموضوع في شهادته أمام المجلس العدلي خلال محاكمة رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ورفاقه في هذه القضية.

عندما اغتيل مساعد قائد جيش لبنان الجنوبي عقل هاشم في 30 كانون الثاني عام 2000 كلّف البطريرك صفير المطران مارون صادر تمثيله في مراسم دفنه في الثاني من شباط. وقد القى صادر يومها كلمة قال فيها: «أتوقف عند حياة الفقيد الفاضل عقل هاشم، لقد عرفته رجل إيمان، وأباً عطوفاً، وإنساناً محبّاً للجميع، لقد غسل بدمه تراب هذه المنطقة. أتقدم باسم صاحب الغبطة الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، بأحرّ التعازي من حضرة اللواء الفاضل أنطوان لحد ورفاقه الجنود». كان هذا التكليف وهذا الكلام كافياً لإطلاق موجة انتقادات وتجريح بحق البطريرك صفير والمطران صادر الذي تعرّض لمضايقات جعلته ينتقل من مقره في مطرانية صور.

وقفد زادت أزمة العلاقة بين صفير و»الحزب» بعد نداء بكركي في 20 أيلول 2000 الذي طالب بسحب جيش النظام السوري من لبنان بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي. وزادت نسبة التأزم في مرحلة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بعدما تولّت بكركي مهمة نعيه باعتباره شهيد لبنان وصولاً إلى المطالبة بالعدالة وإنشاء المحكمة الدولية.

علاقة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي مع «حزب الله» لم تختلف عن علاقة البطريرك صفير معه. دائماً هناك نقاط متفجّرة لا يمكن تجاوزها بسهولة. فالبطريكية المارونية لا يمكنها أن تتغاضى عن سيطرة «الحزب» بشكل كامل على الضاحية الجنوبية وعلى تغيير هويتها الديمغرافية والطائفية بحيث انتفى الوجود المسيحي في حارة حريك التي تحوّلت إلى مقرّ للحزب. وكما في الحارة كذلك في سائر قرى وبلدات الضاحية التي كان فيها وجود مسيحي فاعل قبل الحرب، من برج البراجنة إلى الأوزاعي والشياح والمريجة، الأمر الذي اعتبرت بكركي أنّه تطبيق لمنهج الحزب الإسلامي.

في بداية انطلاقته في ولايته البطريركية حاول البطريرك الراعي أن ينفتح على جميع الأطراف في لبنان ولم يتوانَ عن استقبال ممثلين عن «حزب الله» في بكركي. ولكن العلاقة تفجّرت سريعاً بعد قراره القيام بزيارة راعوية إلى الموارنة والمسيحيين في فلسطين المحتلة في أيار 2014 بالتزامن مع زيارة البابا فرنسيس إلى الأراضي المقدسة. لم يستمع الراعي إلى مناشدته العدول عن هذا القرار لذلك قامت القيامة عليه وتمّ تخوينه ووصفه بالصهيوني والعميل وتمّت مقاطعته. ولكنّه لم يأبه لهذه الحملة ولتلك المقاطعة معتبراً أن أبواب بكركي مفتوحة للجميع وأنّ بكركي لا تقاطع أحداً.

الأزمة الأكبر والأخطر في علاقة الراعي بالحزب كانت في 18 تموز 2022. صباح ذلك اليوم، عند الساعة الحادية عشرة والنصف تقريباً، وصل راعي أبرشية حيفا والأراضي المقدسة، والنائب البطريركي على القدس والأراضي الفلسطينية والمملكة الهاشمية، في الطائفة المارونية، المطران موسى الحاج إلى معبر الناقورة عائداً إلى لبنان فتم توقيفه في مركز الأمن العام. طوال عشر ساعات استمر التحقيق معه. المعلومات ذكرت أنّ التوقيف جاء بناء على قرار من قاضي التحقيق العسكري فادي عقيقي وأن المطران شعر بالمهانة نتيجة إخضاعه لتفتيش دقيق شمل كل الأغراض التي ينقلها معه وتمّت مصادرتها ومن بينها أموال مرسلة إلى عدد من اللبنانيين المسيحيين والدروز، عبر مشيخة العقل، والفلسطينيين من أقرباء لهم هناك.

ولم تتمّ مراعاة مركزه الديني وكونه نائباً بطريركياً يمثّل البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، وقد أطلق سراحه بعد كل هذا الوقت وبعد تدخّل مراجع كنسية وقضائية عليا. وكان موقف «حزب الله» حازماً في هذه القضية من خلال إعلان أمينه العام السيد حسن نصرالله أنّ على المطران أن لا ينتقل عبر معبر الناقورة وأن يسلك طريق الأردن وألّا ينقل معه أي أغراض وأنّه يجب التحقيق في مصدر الأموال المرسلة. كان «الحزب» كأنّه يريد أن يحدّد مهمات المطارنة الموارنة وبطريركهم من خلال تدخّله من موقع من يملي قراراته عليهم بحيث يحدّد لهم ما يمكنهم أن يفعلوه وذلك في عودة إلى منطلقاته التأسيسية وموقفه من الموارنة في لبنان بشكل عام، ومن دورهم في تـأسيس لبنان الكبير والدولة اللبنانية.

هذه المهمة لم تقتصر على «الحزب» وحده بل تحوّلت إلى ما يشبه المهمة الدينية عندما تصدّى لها تباعاً عدد من رجال الدين الشيعة القريبين من «الحزب»، ومن بينهم المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان من خلال التصويب على دور بكركي والقول أن مجد لبنان لم يكن لها فضل فيه، وأن هذا المجد صنعه «حزب الله» وأنّ تاريخ لبنان يبدأ مع هذا «الحزب»، وأنّه قبل ذلك كان مقرّاً للإستعمار والتبعية للغرب.

كل هذا التطاول على بكركي ودورها من «حزب الله» والجماعات التابعة له يفسّر سبب احتلال كنيسة لاسا في جرد جبيل معتبرين أنّهم يريدون تصحيح خطأ تاريخي أدّى إلى وضع الكنيسة المارونية يدها على أملاك تعود للشيعة. ولكن في الواقع يريد «الحزب» أن يفرض على بكركي أمراً واقعاً من خلال استقوائه بسلاحه عليها وعلى عموم اللبنانيين. ولذلك لم تتبدّل طريقة تعاطيه معها وأسباب الصدام الدائم بين تناقضين لا يمكن أن يلتقيا: بكركي التي أعطيت مجد لبنان قبل قيام دولة لبنان و»حزب الله» الذي يريد أن يصادر هذا المجد، وأن يغيّر صورة لبنان وهويته، وأن يسيطر على قرار بكركي وربّما أن يعيّن لها بطريركها كما يتحكّم بانتخاب رئيس الجمهورية.