IMLebanon

هدرٌ وتنفيعات وشراء خدمات… ومرضى وهميّون

كتبت كارين عبدالنور في “نداء الوطن”: 

مخالفات المستشفيات الحكومية في لبنان… تابع. وهذه المرّة مع مستشفى صيدا الحكومي. من مجالس إدارة منتهية الولاية، إلى تدخّلات سياسية «على عينك يا تاجر». أما ما بينهما فاختلاسات وتطاوُل على المال العام في ظل «تنييم» قضائي للملفات. ثم هناك بدعة تشكيل اللجان الإدارية بدلاً من مجالس الإدارة، وشراء الخدمات بدلاً من توظيف الفائزين عبر مجلس الخدمة المدنية. وهذه وتلك حكايتان أخريان.

نعود إلى آذار 2008 تاريخ انتهاء ولاية مجلس إدارة مستشفى صيدا الحكومي. إذ ما كان من وزير الصحة آنذاك، محمد جواد خليفة، إلّا أن طلب من المجلس الاستمرار بتشغيل المرفق العام إلى حين تعيين مجلس إدارة جديد. عندها تقدّم رئيس المجلس منتهي الولاية، الدكتور علي عبد الجواد، بكتاب إلى وزارة الصحة يطلب فيه تكليف نفسه مديراً، فجاءت الموافقة ليستلم من بعدها مهام المدير كما رئيس مجلس الإدارة. في الأثناء، كان عبد الجواد منهمكاً في إنشاء مستشفى خاص به (مستشفى النقيب الذي أُغلق بالشمع الأحمر في العام 2023). ومع افتتاح المستشفى، تحديداً في 12/05/2014، تقدّم عبد الجواد باستقالته من إدارة مستشفى صيدا غير أنه بقي رئيساً لمجلس إدارته. فما الذي حصل بعدها؟

الوزير يُرضي النائب

عمّت بين الموظفين حالة استياء من التوظيفات التنفيعية التي قام بها مجلس الإدارة، ناهيك بملفات الهدر والفساد التي أوصلت المستشفى إلى عجز تخطى الـ15 مليار ليرة حينها. فما كان من هؤلاء إلّا أن تقدّموا بشكوى إلى وزارة الصحة والتفتيش المركزي كما إلى النيابة العامة المالية يطالبون فيها بإنهاء خدمة مجلس الإدارة مجتمعاً، رئيساً وأعضاء. «كانوا يقومون بتوظيفات من خارج الملاك إرضاءً للجهة السياسية المتحكّمة بالمنطقة. تخيّلوا أنهم منعوا رئيسة دائرة الشؤون الإدارية والمالية من الدخول إلى مكتبها بعد أن كشفت ملفات الهدر والفواتير الوهمية التي كانوا يوقّعون عليها. وبعد أن تقدّمنا بالدعوى، وكان القاضي علي ابراهيم قد استلم مهامه مجدّداً للتوّ، هدّدنا بالظهور الإعلامي. فما كان منه إلّا أن ألزم المجلس بتقديم استقالة جماعية. وكان ذلك في آذار 2015»، كما يخبرنا أحد الموظفين.

ويتابع آخر: «توجّهنا بعدها إلى النائبة بهية الحريري، وأخبرناها بكلّ ما يحصل، فوعدتنا بالسعي جاهدة لمكافحة الفساد داخل المستشفى. لكن كانت المفاجأة حين علمنا أنها كانت تعمل، بالتنسيق مع وزير الصحة وائل أبو فاعور، لاستغلال الوضع وتشكيل لجنة إدارية بدلاً من تعيين مجلس إدارة جديد، حيث قامت بطرد أحد الموظفين المعترضين على التشكيل غير القانوني للّجنة من وزارة الصحة ومنعته من الدخول إليها». مع العلم بأن تلك اللجان التي درجت المستشفيات الحكومية على تشكيلها غير قانونية، وهي ليست سوى بدعة تسمح للجهات المتحكّمة، وبقرار مباشر من وزير الصحة، بالسيطرة والهيمنة على مستشفيات الدولة. وهكذا حصل. ففي الأول من نيسان 2015، وبطلب من النائبة الحريري، قام أبو فاعور بتكليف لجنة إدارية حيث عُيّن الدكتور هشام محمد قدورة رئيساً ومديراً للمستشفى، إضافة إلى خمسة أعضاء. ومُنح قدورة وأحد الأعضاء (الدكتور ماهر إسكندر الحاج) حق تحريك حساب المؤسسة العامة لإدارة المستشفى رغم توصية التفتيش المركزي بالرجوع عن هذا التكليف.

مخالفات لا تنتهي

من هو الدكتور هشام قدورة؟ «كان طبيباً متعاقداً ومتفرّغاً في تعاونية موظفي الدولة. وكان يبصم صباحاً في التعاونية، ويمارس مهامه بينها وبين المستشفى. فتعيينه مخالف للقانون لكنه جاء بأمر من الجهة التي عيّنته. ذلك أن النظام الداخلي للمستشفى، وتحديداً المادة الثامنة منه، أشار إلى وجوب أن يكون المدير متفرغاً للعمل الإداري داخله حيث لا يحق له القيام بأي عمل مأجور»، بحسب أحد الإداريين حينذاك. لا بل ثمة من يتحدّث عن أن قدورة والحاج تصرّفا بأموال المستشفى بلا حسيب أو رقيب، ودون إشراك الإداريين المسؤولين عن المالية حتى. أما حالات «معالجة» مرضى وهميين، فكانت حاضرة هي الأخرى. ليس هذا فحسب. فهل يُعقل، مثلاً، أن يقوم رئيس ومدير مستشفى حكومي بالتوقيع على بياض على حوالات صرف وأن يُترك للمحاسب تحديد المبالغ من بعدها؟ وهل من المنطقي أن يستحيل الحصول على أي موازنة قانونية للمستشفى موقّعة من وزارتي المالية والصحة بحسب الأصول منذ عشرات السنين؟

أجل، يُعقل. فلا غرابة في بلد الغرائب. حتى لجنة المشتريات والمناقصات التي شكّلها قدورة بتاريخ 26/05/2015 – بحجّة الحفاظ على المال العام وتحقيق مزيد من الشفافية – لم تكن سوى تنفيعة لصالح أحد أعضاء اللجنة الإدارية المخالفة أساساً للقانون، وليد البص، والذي عُيّن رئيساً للجنة المشتريات في نفس الوقت الذي كان فيه موظفاً في غرفة التجارة والصناعة والزراعة في صيدا. مخالفات بالجملة أدّت إلى تقديم عدّة شكاوى بحقّ قدورة، لا سيّما بعد أن تمادى باستبدال أطباء لبنانيين بآخرين فلسطينيين، رغم عدم سماح القانون بتوظيف أجانب في المستشفيات الحكومية. عندها، خُيّر الأخير بين المستشفى والتعاونية. ونتيجة لرفع الغطاء السياسي عنه بعد أن خرجت الشكاوى إلى العلن، اضطر لتقديم استقالته. ثم بتاريخ 10/03/2016، قام أبو فاعور بتعيين لجنة إدارية جديدة، بدلاً من انتخاب مجلس إدارة، وهذه المرّة برئاسة الدكتور أحمد اسماعيل الصمدي، وهو طبيب يمارس مهامه في مستشفى صيدا أيضاً.

القضاء… لا يحسم

تكليف الصمدي بمهام رئيس اللجنة الإدارية ومديراً للمستشفى وتفويضه بتحريك حساب المؤسسة لدى المصرف شكّل بدوره مخالفة للمادة 12 من المرسوم 4517. فالأخير لا يجيز بأن يتكوّن لرئيس مجلس الإدارة منفعة شخصية في الصفقات التي تجريها المؤسسة العامة التي يتعامل معها. كما يتنافى مع المادة الثامنة من المرسوم 5559 المذكورة أعلاه. على أي حال، وعشيّة الانتخابات النيابية، ومن خارج جدول أعمال مجلس الوزراء، وبملحق استثنائي، تمّ إرسال مشاريع مراسيم لتعيين مجالس إدارة في سبعة مستشفيات حكومية موزّعة على سبع محافظات، ويُحكى في السياق عن ضغوطات قامت بها النائبة الحريري وقتها من أجل تمرير المرسوم الذي وقّع عليه الرئيس السابق ميشال عون بتاريخ 19/04/2018. عندها، تمّ تشكيل مجلس إدارة لمستشفى صيدا برئاسة الصمدي الذي لم يكن يتمتّع بشروط التوظيف. كما جرى تعيين الدكتور حسن نمر علوية مفوّضاً لدى الحكومة، رغم أنه لم يكن يتبقى لبلوغه السن القانونية أكثر من ثلاثة أشهر. ومنذ ذلك الحين ومستشفى صيدا يعمل بلا مفوّض لدى الحكومة. المرسوم ذاك جاء بعد قرار منع التوظيف في القطاع العام باستثناء مجالس الإدارات ووظائف الفئة الأولى في المؤسسات والإدارات، الصادر وفقاً لقانون الموازنة العامة للعام 2017. وبما أن مدير المستشفى يُعدّ موظفاً فئة ثانية، فيكون تعيينه بالتالي غير قانوني.

طلب إنهاء خدمات مجلس الإدارة مجتمعاً

انتهت ولاية الصمدي في العام 2021. غير أنه لا يزال يمارس مهامه كاملة حتى الساعة تحت شعار «تسيير المرفق العام». هذا في حين جدّد له وزراء الصحة المتعاقبون حق تحريك أموال المصرف رغم ادّعاء النائب العام المالي، علي ابراهيم، عليه وعلى هشام قدورة وعلي عبد الجواد بجرائم اختلاس وهدر المال العام وتزوير في كانون الأول 2019. المؤسف هنا هو أن الادعاء الذي أحيل إلى قاضي التحقيق الأول في الجنوب، مرسيل الحداد، لم يُعرف مصيره إلى الآن وسط تكتُّم تامّ يحيط بالملف. وهذا يدفع بمراقبين لتوجيه سؤال إلى القاضي حداد عن حق الوصول إلى المعلومات الذي تقدّم به أحد موظفي المستشفى؟ وثمة تساؤل آخر لا بدّ من التوقّف عنده: إذا كان من يمثّل المستشفى أمام المحاكم هو رئيس مجلس الإدارة، فكيف للمحامية منى الشامية – الموكلة من الصمدي مباشرة دون استدراج عروض ودون توافر أي محضر جلسة يؤكّد تكليفها، وهي المقرّبة من المحامية سهى عنتر المقرّبة بدورها من النائبة الحريري التي عيّنتها بداية في اللجان الإدارية ولاحقاً من خلال مرسوم تشكيل مجلس الإدارة – أن تتقاضى عشرات آلاف الدولارات من حساب المستشفى وبتكليف غير قانوني ما زالت تستخدمه في مرافعاتها؟ وحتى لو كان التكليف قانونياً، أليس من شأن مفاعيله أن تنتهي مع انتهاء ولاية الصمدي منذ ثلاث سنوات؟

الواقع المرير

واقع مستشفى صيدا الحكومي هو أحد حلقات مسلسل ملفات المستشفيات الحكومية. أين رقابة كتّاب العدل على الوكالات غير القانونية؟ وأين التفتيش المركزي من التقارير التي قُدّمت إليه (ومنها تقرير من عشرات الصفحات للمفتشة المالية، سامية ضاهر، في العام 2015، يتناول حالات الفساد في مستشفى ولم يوضع حتى الساعة على جدول أعمال جلسات «التفتيش»، لا بل ما زال غارقاً في أدراجه)؟ كما أين وزارة الصحة وديوان المحاسبة ومجلس الخدمة المدنية من متابعة قرارات التفتيش المركزي وتنفيذها، ولِمَ الإصرار على «تنييمها» إلى أن تسقط مع مرور الزمن؟

وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، لا بد من البحث عن موقف وزراء الصحة من تلك التعيينات التي تأتي بمعظمها من خارج قائمة أسماء المتبارين الفائزين (إن في الوزارة لمراكز أعضاء مجالس الإدارات، أو في وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية لمراكز رؤساء مجالس الإدارات). فمن أصل 225 مستخدَماً في مستشفى صيدا الحكومي، 68 فقط عُيّنوا بموجب مباراة أجريت في مجلس الخدمة المدنية و157 جرى التعاقد معهم عن طريق «بدعة» شراء الخدمات – أي «تنفيعة» محسوبيات – وذلك بحسب تقرير التفتيش المركزي. وهذا يحيلنا، بما لا يقلّ أهمية، إلى السؤال عن محاضر جلسات مجلس إدارة المستشفى التي تُرسَل أسبوعياً إلى كل من وزارة الصحة والتفتيش المركزي وديوان المحاسة.

مؤسف أن لا وجود يُذكر لرأي أي من الجهات المذكورة حيال مضمون تلك المحاضر… هذا إن كانت تُقرأ أصلاً.