IMLebanon

في ذكرى لقمان سليم

جاء في “نداء الوطن”:

«قل للمقيم على ذله هجينا يسخر أو يلجم

تقحم، لعنت، أزيز الرصاص وجرّب من العيش ما يُقسم

فإما إلى حيث تبدو الحياة إليك مكرمة تغنم

وإما إلى جدث لم يفضله بيتك المظلم»

(الجواهري)

ذاك الصوت الصارخ في البرية الذي عانق الرياح وصاحب السحاب وأتى بالمطر ليغسل أوراق الشجر، فيما آخرون غرقوا في عسل السلطة فغطى الذباب أفواهم على المنابر.

عندما أردت أن أكتب في ذكرى لقمان، لم أجد في عمق وجداني ما يمكن أن يفيه ويعوض عما اغتصب منه بسنوات عمره المخطوفة من قبل عبدة أوثان العقائد والأساطير والسلطة والموت. أذكر كم من الشتائم انهالت علي بعد مقالة نشرتها بعنوان «لقمان سليم شهيداً كالحسين والقاتل يزيد».

يومها شبهت قتلة لقمان بأتباع «الأخ الأكبر» في رواية جورج أورويل «1984». هؤلاء الذين لا يمكن أن يحيوا إلا في عالم مضطرب وحرب مستمرة حيث تصبح الرقابة السلطوية على الأفراد والسيطرة مسوغة بحكم الأمر الواقع، وذلك لكون المجتمع في نزاع دائم ومهدد من العدو! هذه المنظومة التي تحكمها شلة من المتعصبين الذين يعتبرون الفكر الحُر جريمة بحد ذاتها. الأخ الأكبر في الرواية هو زعيم يتربّع على رأس منظومة يحيط به أتباع ينسجون الحقيقة الرسمية على هواهم، ومن خلال الحقيقة المفبركة تنطلق الدعاية الحزبية التي تنسج الأساطير من خلال مراجعة التاريخ ليتلاءم مع أهداف السلطة. ومن بعد إحداث التعديلات المناسبة على التاريخ المثبت، يذهب الأتباع المتعصبون إلى إخفاء أي دليل على الكذب والتزوير من خلال حرق الكتب أو قتل الشهود، كما حصل للقمان. ويدعى الأتباع إلى الوقوف أمام شاشات عملاقة للاستماع إلى توجيهات الأخ الأكبر، لتنتهي الحفلة بحفلة شتائم على الأعداء وهتافات بتحية الأخ الأكبر.

لقمان استهدف لأن نفسه التواقة إلى الحقيقة تجرأت على طرح التساؤلات المنطقية حول الدعاية الحزبية، فتعرض في البداية لشتى أنواع التشهير والترهيب، وعندما فشلت كل هذه الحملات المسعورة بإخفاء صوته، لجأ الأخ الأكبر إلى المهارات التي يتقنها، لجأ إلى القتل.

(هيهات منّا الذلّة) جملة قالها الإمام الحسين، حسب الرواية الشعبية، في يوم عاشوراء أمام جيش الأخ الأكبر يزيد. قال إمام المستضعفين «إنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركزني بين اثنتين السلّة والذلّة… وهيهات منّا الذلة»، أي أن الأخ الأكبر يومها أراد من الحسين إمّا أن يسلّم فكره وعقله ولسانه للدعاية للسلطة، أو يستلّ سيفه ويحاربه. الحسين اتخذ قراره بألّا يسلم الأخ الأكبر حريته فقتل وهو يقاتل، رغم أنه كان يعلم مصيره. كلام الحسين يعني أنه لا يليق بالحر أن يحيا ذليلاً تحت سلطة الفاسد، وأنّ عليه أن ينتصر لعزّة نفسه باسترداد كرامته بالاحتجاج او الثورة.

لقمان سليم لم يكن يؤمن بالأساطير، ولكنه بالتأكيد كان يحفظ سيرة الحسين عن ظهر قلب، فترك وراءه الأساطير وانكَبّ ليفهم العبر من استشهاد الحسين، فاستنتج أنّ الرسالة الأعظم للإنسان الحر العزيز النفس والمتصالح مع كينونته هي قول كلمة حق في وجه ظالم. كانت النتيجة أنّ لقمان لم يعترف بسلطة الأخ الأكبر، ورفعَ في وجهه سيف الفكر واللسان، وراح يواجه الأكاذيب بالوقائع، والتضليل بالحقائق، وتوجّه أيضاً برسالته إلى الجموع المتجمهرة حول الشاشات العملاقة بأن يكسروا قيودهم ويفتحوا عقولهم للنقد والتحليل، بدل السير من دون هدى كتوابع عمياء. لم يأبه بالتهديد ولا بالوعيد وسار إلى عاشورائه برأس مرفوع.

لقمان فهم أنّ كينونة الإنسان تبدأ مع الولادة وتنتهي بالموت، ما يهم في هذه الكينونة هو كيف نحياها، فإما أن نسير بمفهوم القطيع ونختبئ وراء ستار الكسل، أو نبني ملحمتنا الخاصة المضنية والخطرة. لقمان اختار الخيار الصعب وسطر أوديسته الخاصة وأبى أن يكون رقماً في قطيع المطبلين والهتافين في حضرة أي أخ أكبر.

إن مأثرة لقمان ليست بالتنظير عن بعد فهو لم ينسحب أو يلجأ إلى الأمان، ولم يحارب من برج أو من وراء سور واقٍ، بل بقي في بيت العائلة العريق رغم الخطر المحدق من كل صوب وبقي يواجه الوحش في عقر داره وكأنه يريد أن يقول لكل الخائفين والمقبورين وهم أحياء في سكوتهم وجبنهم أن انتفضوا وعودوا إلى الحياة كما دعا محمد مهدي الجواهري أخاه جعفر في قصيدته العظيمة:

أتــــــعــــــــــــــــلَــمُ أنَّ رِقـــــــــــــابَ الـــــطُــــــــغــــــــــاة أثقَلَها الغُنْمُ والمأثَم

وأنَ الــــــــــبـــــــــغــــــــــيَّ الــــــذي يــــــــــــدعــــــــــــي من المجد ما لم تَحُزْ مريم

فــــــــــــــــقُـــــــــلْ للــــــمُــــقــــيـــــمِ عـــــــــلى ذُلــــــّـــــــــــهِ هجيناً يُسخَّرُ أو يُلجَم

تَــــــقَــــحَّـــمْ، لُعِــــنْــتَ، أزيزَ الرَّصــــــاص وَجرِّبْ من الحظّ ما يُقسَم

فـــــــــإِمَّـــــا إلى حيــــثُ تبـــــدو الحـــــيــاة لِعينيْكَ مَكْرُمةً تُغْنَم

وإمَّـــــــــــــا إلـــــــى جَــــــــــــــدَثٍ لــــــــم يـــــــكُـــــــــن ليفضُلَه بيتُكَ المُظلِم

تَـــقَـــــحَّـــمْ، لُعِــــنْــــتَ، فـــمــــا تـــَرتــــجــــــــي مِن العيش عن وِرده تُحرَم

وهذا ما فعله لقمان بالذات رغم حبه للحياة، لكنه، مثل سقراط، قال كلمته ثم فتح باب خياله وذهب. ونحن اليوم مجتمعون لذكراه لنعلن التضامن مع عائلته الصغيرة، كوننا نحن عائلته الكبيرة التي تضم كل أحرار الأرض الذين رفضوا منح أبنائهم ضحايا فداء للأخ الأكبر.

وفاء لبنان لشهادة لقمان سليم علينا فضح الأخ الأكبر وسياساته التي حوّلت التبييض إلى مال حلال، وجعلت من العمالة لدولة أجنبية نوعاً من الوطنية، وأوهَمت الناس أن تحويل لبنان وجنوبه وبقاعه وضاحيته منصة صواريخ عمل مشكور. فوفاء للقمان علينا الاستمرار في ما بدأه وبذل حياته له.