IMLebanon

“مكتوم القيد” كصفة “ربحية”: فتْح مؤسّسات وتجارة أعضاء

كتبت كارين عبد النور في “نداء الوطن”:

محزن، مقزّز لكنّه واقعي. سوريّون في لبنان يعرضون أعضاء أطفالهم مكتومي القيد للبيع، وبأسعار خيالية. «كلية وكبد ونخاع شوكي… وجلد أطفال (بخلايا فريش) لعمليات التجميل». كان الهدف التواصل مع إحدى الأمهات السوريّات لتخبرنا عن معاناتها لإدخال ابنها (مكتوم القيد) إلى المدرسة. وإذ بها تنتهي بتقديم عرضٍ لبيع إحدى كليتيه. والحديث عن «عروض» مشابهة – تليها صفقات – يكثر. قضية مكتومي القيد موصولة بصاعق قد ينفجر بأي لحظة. نلقي الضوء في ظلّ إمعان متمادٍ في غضّ الطرف. لا بل وجب التحذير.

قبل العام 2011، تاريخ بدء «التدفّق» السوريّ إلى لبنان، كان مكتومو القيد محصورين بشكل خاص ورئيسي باللبنانيين الذين أغفل أهلهم عن التصريح عنهم. وهو أمر يحتّم على هؤلاء التقدّم بشكوى أمام المحكمة لإتمام عملية التسجيل، مكتفين بشهادة مختار أو بالرجوع إلى القابلة القانونية التي أشرفت على الولادة. لكن الوضع، شأن أوضاع أخرى، اختلف كثيراً مذّاك. فاختلط الحابل بالنابل، حيث تعقّدت عملية التأكد ما إذا كانت هذه الولادات تعود للبنانيين موجودين في لبنان أو سوريّين دخلوه كنازحين. من هنا جاءت فكرة تعديل القانون الذي يعمل عليه مجلس النواب حالياً لإدخال فحص الـDNA كشرط أساس قبل منح الجنسية لأي مكتوم قيد. عرقلة أجهزة الأمم المتحدة عملية الإحصاء والتتبّع – ما أخبار الداتا الخاصة بولادات السوريّين، بالمناسبة؟ – زادت وتزيد الطين بلّة. أما الخطورة الأكبر بما خصّ تلك الولادات، فناتجة عن الدخول غير الشرعي للعائلات السوريّة، حيث لا يجري بالضرورة التصريح عنها لا في لبنان ولا في سوريا ولا حتى في سجلّات الأمم المتحدة.

هناك من القاع، صرخة يطلقها رئيس بلدية البلدة، بشير مطر. ففي اتصال مع «نداء الوطن»، يروي لنا عن أحد السوريّين الذي يحمل بطاقة «مكتوم القيد» وقام بفتح محال تجارية في المنطقة ليتبيّن بعدها أن والده سوريّ، أي أنه سوريّ الجنسية وقد زوّر بطاقته. «أخبرْنا النيابة العامة وتمّ توقيف ذلك الشخص والتحقيق معه، لكن أخلي سبيله بعد خمسة عشر يوماً ليعود ويستخدم بطاقته المزوّرة في معرض فتْح مؤسسة لبيع أدوات الطاقة الشمسية». تزوير المستندات جناية تصل عقوبتها إلى السجن لمدة ثلاث سنوات على الأقل. لكن، على أي حال، يتابع مطر ليؤكّد أن معظم مكتومي القيد في لبنان هم من السوريّين، ذلك أن العدد الأكبر من اللبنانيين جرى تجنيسهم في العام 1994.

نسأل عن كيفية استحصال هؤلاء على بطاقة «مكتوم القيد»، فيشير مطر متأسّفاً إلى أن بعض المخاتير شركاء في التزوير، كون الأمن العام هو الجهة الوحيدة المخوّلة بإصدار تلك البطاقات. ويحذّر من الممارسات التي يلجأ إليها مكتومو القيد، إذ يتقصّدون ارتكاب مخالفات للدخول إلى المخافر وتسطير محاضر بحقّهم. لماذا؟ بحسب المادة 12 من قانون الأحوال الشخصية، لا يمكن قيد المولود الذي انقضى على تاريخ ولادته أكثر من سنة، فيصبح بذلك مضطراً لإثبات إقامته في لبنان والعيش فيه لمدة طويلة. وهكذا، مجرّد ورود اسم مكتوم القيد في محاضر رسمية يشكّل إثباتاً على تحقُّق إقامته. «يدركون جيّداً كيفية التحايل على القانون، فنراهم يستغلّون المخالفات لإثبات إقامتهم الفعلية وبشكل متواصل مستندين إلى تقارير القوى الأمنية، ما يخوّلهم الانفصال عن بيئتهم وواقعهم السوريّ تمهيداً للحصول على الجنسية اللبنانية. الدولة هي المتقاعس الأوّل. فهل من يفسّر لنا على أي أساس تُمنح الجنسية للسوريّين منذ خمس سنوات وبموجب أي مرسوم وبناء على توقيع مَن؟».

الواقع خطير، كما يصفه مطر محمّلاً مسؤولية ما يحصل، إلى جانب الدولة اللبنانية، للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين كما للجهات المانحة والاتحاد الأوروبي. هو عبث متعمَّد بالديموغرافيا وبهويّة لبنان وبملكية أراضيه. فالهاجس الذي تعيشه القاع، كمثال، يوميّ. أهلها لم ينسوا مآسي التفجيرات والعمليات الانتحارية. و90 إلى 95% من مكتومي القيد هم سوريّون حاملو بطاقات مزوّرة، بحسب مطر. «العنصر المسيحي هو الأكثر استضعافاً كالعادة. ترى النازحين يحاولون السيطرة على أراضي المسيحيين أكثر منها على أراضي الشيعة والسنّة والدروز، وكأن على المسيحي أن يدفع الثمن الأغلى دوماً. مكتومو القيد، شئنا أم أبينا، سيبقون في لبنان وسيشكّلون عبئاً ثقيلاً عليه لأن هناك من يقدّس حقوق الإنسان حتى على حساب الوطن. فلتذهب هويّتنا وليُلغَ مصيرنا ووجودنا، كل ذلك تحت شعار احترام الحقوق تلك».

مطر تتطرّق أيضاً إلى «إقامات المجاملة» التي تسمح لأي سوريّ متزوّج من لبنانية بأن يقيم شرعاً وقانوناً في لبنان. ولم ينسَ المساعدات التي تصل من المفوضية لكل سوريّة متزوّجة من لبناني. بمعنى آخر: مساعدات «عالطالع والنازل» كي لا يبارحوا لبنان. الخارج يستغلّ الواقع لحسابات تعنيه، والنظام السوريّ يرفض العودة مستخدِماً ملف النزوح للضغط على ذاك الخارج، والدولة في «كوما» مزمنة. فما الحلّ؟ «يجب وضْع ملف مكتومي القيد بعهدة وزارة الداخلية والقوى الأمنية. فبعد عشر سنوات، ومع أعداد هائلة من الولادات ومعظمها لمكتومي القيد الذين لا هوية لهم ولا داتا ولا مرجعية، سنكون أمام تهديد جدّي للأمن المجتمعي. مكتومو القيد كالسلاح غير الشرعي، لا يُستخدَم في الداخل لكنه يخيف مَن في الداخل».

المحامي علي عباس حذّر بدوره في حديث لـ»نداء الوطن» من تداعيات هذه القنبلة البشرية الخطيرة التي تتربّص بالواقع اللبناني. فمكتومو القيد لا يمكنهم التعلّم في المدارس ولا التخصّص في الجامعات، ما سيحوّل كثراً منهم لأدوات في انفجارات مستقبلية محتملة وعلى كافة الأصعدة. ثمة تخبّط بين مكتومي القيد من السوريّين ومن البدو الرحّل، والدولة اللبنانية في أزمة حقيقية. ذلك أن الآلية الوحيدة لإثبات النسل يجب أن تمرّ بفحوصات الـDNA مرتفعة الكلفة. وهذا سبب رئيسي من أسباب استحالة ضبط الأمور. «ستكون هناك كتلة بشرية موجودة على الأراضي اللبنانية غير قادرة على التوجّه إلى القضاء لتثبيت النسب، كما لا يمكن ترحيلها من دون هويات. فكيف ستستقبل الدولة السوريّة هؤلاء قبل أن يثبتوا أنهم سوريّو الجنسية؟». وهذا يعني ببساطة أن الكتلة ستزداد حجماً وبشكل متسارع نتيجة وتيرة الولادات المتصاعدة، لا سيّما في البيئات الفقيرة، حيث يُعتبر الإنجاب – وبالتالي عمالة الأطفال – مصدر حماية للعائلة. عندها تمسي الدولة أمام خيار وحيد: حماية هؤلاء ورعايتهم في وقت هي أعجز من أن تؤدّي الدور المطلوب منها تجاه أبنائها أوّلاً.

عباس لفت إلى أن المرحلة الأخطر ستتمثّل في وقت لاحق بتخلّي الأمم المتحدة عن مدّ النازحين السوريّين في لبنان بالدعم المادي. ذلك سيحصل عاجلاً أم آجلاً، وهو سيدفع إلى تزايُد الارتكابات من سرقات وجرائم وتشكيل عصابات وتعاطي ممنوعات. هذا عدا عن الإرباكات الأمنية التي قد يفتعلها الأكثر تفلّتاً من بين هؤلاء. وسيكون مكتومو القيد من بين أوّل المرتكبين، إذ من الصعب ملاحقتهم. واحتمال التغرير ببعضهم ثم انضمامهم إلى جماعات سلفية متطرّفة، تعبيراً عن حقدهم بوجه المجتمع المسؤول بنظرهم عن معاناتهم، لا يجب التقليل من إمكانية حدوثه. ناهيك عن التغيّر الديمغرافي الذي بدأ يُترجَم فعلياً كنتيجة مباشرة لهجرة الأدمغة، ومن استسلموا بإزاء الواقع المفروض عليهم، من اللبنانين، معطوفاً على ارتفاع أعداد مكتومي القيد الذين لا يقدّمون لأسباب كثيرة أي إفادة تُذكر للمجتمع اللبناني. «لبنان هو الدولة الوحيدة التي تعاني من هذه الكارثة، بعكس الدول الأخرى التي فتحت أراضيها لاستقبال النازحين السوريّين. ويعود ذلك لانتشار المعابر الحدودية غير الشرعية… هكذا سيتحوّل لبنان من بلد نزوح إلى بلد لجوء، بعد أن كان مجرّد بلد عبور للسوريّين».

بالحديث عن المعابر غير الشرعية، يبقى إغلاق معظمها – إن استحال إغلاقها بالكامل – هو الحلّ الوحيد. على أن تواكب ذلك إحصاءات جدّية لتحديد نسب مكتومي القيد وترحيل المستفيدين من بقائهم في لبنان، كما تطبيق نظام إجازة العمل والإقامة على من يتعذّر ترحيلهم لأسباب أمنية. فترجمة هذه التدابير عملياً ليست عنصريةً، خصوصاً وأن الترحيل بدون إغلاق المعابر غير الشرعية سيُسهم في تنشيط عمل السماسرة، ليس فقط تهريباً للبشر إنما للممنوعات والمواد والأسلحة أيضاً. ويختم عباس: «يمكن ضبط المسألة شرط توافر النية. لكن المؤسف أن لا قرار على مستوى الدولة الغارقة في بحر من التجاذبات بين أركانها. الجميع يتصرّف وكأن لبنان شركة تجارية يستغلّها لتحقيق مصالح شخصية. وهذا التفلّت، الذي يصبّ اليوم في مصلحة أصحاب الخطاب العالي، سيندم الجميع من جرّاء تبعاته إن لم يقرأوا الخطر الذي يلوح في الأفق وبأسرع وقت ممكن».

الوجود الفلسطيني، الذي لطالما انقسم اللبنانيون حوله، قد يصبح نقطة – لا أكثر – في بحر الانفجار السكاني السوريّ الذي ينتظرنا بعد سنوات قليلة. فالفلسطينيون لم يشكّلوا يوماً أكثر من 5% من عدد سكان لبنان. أما اليوم، فنتكلّم عن أعداد مكتومي القيد التي ستتخطى بأضعاف أعداد اللبنانيين. لكن دعونا نعود لقُبح نموذج بيع الأعضاء الذي ينشط بينهم باطّراد. نموذج يجعل من ظاهرة تفشّي الدعارة في بعض بيئاتهم حدثاً ثانوياً. فكيف للضحايا أن يحموا أنفسهم من عصابات الخطف والقتل والإجرام داخل تلك البيئات، ولا أوراق رسمية تُعرّف عنهم أصلاً؟ ومَن يتدخّل لينال المجرمون العقاب الذي يستحقّون؟ المأساة تزداد مأسوية…