IMLebanon

“براندات” تغزو الأسواق: هل عاد الاستهلاك المفرط؟

كتب فؤاد بزي في “الأخبار”:

بعد انقطاع لسنتين أو ثلاث من أصل سنوات الأزمة الخمس، عادت «البراندات» إلى رفوف السوبرماركت وسائر محلات البيع. في مدة ما انقطعت سلع مشهورة وانتشرت محلّهما منتجات محلية أو مستوردة من تركيا ومصر إلى جانب بسكويت محلّى ومملّح، حتى عبوات القهوة صارت تأتي مغلّفة بعبارات تركية وبطعمة مختلفة وبات لدينا بدلاً من المعكرونة الإيطالية أخرى مُنتجة محلياً.

الأمر نفسه ينطبق على مواد التنظيف، ثمة كثير من السلع التي اختفت لمدة من الأسواق بين منتصف 2020 ومنتصف 2022، ثم عادت إلى الظهور اعتباراً من صيف 2022.عودة «البراندات» ليست سوى مؤشّر على النشاط الذي تدفّق في عروق النمط الاستهلاكي المفرط في لبنان. قد لا تكون هذه العودة كاملة، بمعنى أن «البراندات لم تستردّ كامل حصّتها السوقية «وفقاً لما يقول رئيس تجمّع أصحاب السوبرماركت في لبنان نبيل فهد، إنما هي عادت إلى المنافسة. هنا ينقسم أصحاب السوبرماركت على تفسير ما يحصل، فمنهم من يشير أيضاً إلى أن الماركات التي غزت الأسواق أيام الأزمة بأسعار متدنية تمكنت من قضم حصّة من السوق، وهذا ما دفع الشركات المصنّعة لـ«البراندات» إلى شراسة في التنافس عبر «عروضات وخفض أسعار بنسبة 25%، لاستعادة المواقع السوقية السابقة وإخراج المنافسين» يقول أحد أصحاب السوبرماركت. قدرة الشركات المصنّعة أكبر بكثير في هذا المجال، لأنهم ينتجون السلع في بلدان تقدّم دعماً لأكلاف الطاقة للمصانع.

في المجمل، تراوح نسبة تعافي مبيعات «البراندات» الغذائية بين 50% مما كانت عليه في 2018، بحسب فهد، وبين 70% بحسب صاحب سوبرماركت آخر. لكن عودة النشاط الاستهلاكي هذا لا يقتصر على السلع الغذائية والمطاعم والمحلات التي تشتهر بالـ«براندات»، بل يمكن النظر إليه عبر فاتورة الاستهلاك الكليّة وشرائح المستهلكين لحسم ما يروّج عن التعافي الاقتصادي.

«المعاينة من قرب تكشف أنّ المستفيدين من إعادة توزيع الثروة التي أنتجتها الأزمة الاقتصادية ليسوا إلّا ضمن حلقة ضيّقة من اللبنانيين الأثرياء الذين عادوا إلى السلوك الاستهلاكي الأول السابق للأزمة عام 2019»، وفقاً لدراسة صادرة عن «مركز مبادرة سياسات الغد للدراسات». أجرت هذه الدراسة معاينة تفصيلية للاستيراد، وصنّفت نحو 200 سلعة بأنها «فاخرة» وقارنت استيرادها بين ما قبل الأزمة وما بعدها. والتصنيف مصدره الولايات المتحدة التي حدّدت أصنافاً من السلع التي تعدّها «فاخرة» ومنعتها من الدخول إلى روسيا. فالدراسة تشير إلى ارتفاع صاروخي في السنتين الأخيرتين لاستيراد السلع المصنّفة فاخرة (مثل السيارات الفارهة، السيغار، المجوهرات، الكافيار، الماس، الساعات…). إذ ازداد استيرادها في عام 2021 بنسبة 64%، وفي السنة التالية ازداد بنسبة 40% حتى بلغت قيمتها 3.5 مليار دولار، وهو الرقم الأعلى في السنوات العشر الأخيرة.

وخلصت الدراسة إلى أنه مع بداية الأزمة انخفضت فاتورة الاستيراد من 19.5 مليار دولار عام 2019 إلى 12.8 مليار عام 2020، ولكن تراجع الاستيراد لم يستمرّ لأكثر من سنة واحدة فقط، إذ إنه في عام 2021 استورد لبنان بقيمة 15 مليار دولار، ثم سجّل ارتفاعاً في 2022 ليعود الاستيراد إلى ما كان عليه قبل الأزمة، أي نحو 20 مليار دولار. وتبيّن أن استهلاك السلع المصنّفة «فاخرة» ازداد في عام 2021 بنسبة 64%، ثم سجّلت ارتفاعاً آخر في 2022 بنسبة 40%. مجمل قيمة فاتورة هذه السلع بلغ 3.5 مليارات دولار، وهي أعلى فاتورة سنوية خلال السنوات العشر الأخيرة. كانت الزيادة في استيراد هذه السلع، مدفوعة، بحسب الدراسة، بنحو 10 سلع لا تستهلكها الشرائح الفقيرة وأبرزها: السيارات الكهربائية، المجوهرات، الذهب الخام، الماس، الساعات، واليخوت. بالمقارنة مع عام 2020، ارتفع استيراد السيارات الكهربائية بنسبة 1970%، و114% لليخوت، و456% للماس المخصّص لصناعة المجوهرات، و328% للسيارات الهجينة.

في المقابل، تراجع استيراد المواد الغذائية خلال عام 2020 بنسبة 40% مقارنة مع ما كان عليه في 2019، ولم يتعافَ هذا الرقم سوى بنسبة 8% عام 2022، علماً بأن فاتورة استيراد المواد الغذائية بمجملها لم تتخطَّ عتبة الـ1.5 مليار في 2022.

يفسّر الباحث في «مركز مبادرة سياسات الغد للدراسات» سامي زغيب، هذه النتائج، انطلاقاً من مؤشّر «ضخامة حركة الاستيراد مقارنة مع حجم الاقتصاد في لبنان». فخلال عام 2022 وصلت نسبة الاستيراد إلى 92% من حجم الاقتصاد، ما وضع لبنان ضمن لائحة 15 دولة لا تملك أيّ قدرة على الإنتاج كدولة الفاتيكان وعدد من الجزر المعزولة في المحيطات. وهذا يعني أن لبنان لم يعمل طوال سنوات الأزمة إلا على تعزيز الاستيراد. فدائماً ما كان للمستوردين حظوة كبيرة في لبنان، ورغم أن الأزمة كادت أن تكسرهم، إلا أنهم حصلوا على كل التسهيلات للعودة.

في الواقع، إن الفئات القادرة على الاستهلاك الفاخر، هي التي حفّزت عودة البراندات، وهي نفسها التي تشتري سلعاً غذائية لها اسم تجاري معروف بالتوازي مع استهلاك سلع غير غذائية. الفئات ذات الدخل الأعلى بالدولار النقدي، تجمّعت في طبقة واحدة تمثّل نحو 25% من المقيمين في لبنان بحسب تقديرات الخبير الاقتصادي كمال حمدان. وهذه الفئة، بمعزل عن مصدر مداخيلها، هي القادرة على تنشيط الاستهلاك الذي يبدو ظاهراً للعيان في حركة المطاعم والسوبرماركت وفي فاتورة الاستيراد أيضاً. ولهذه الفئة خصائص متجذّرة في التاريخ الاجتماعي للبنان عبر رغبتها في الحفاظ على صورة نمطية تعكس قدراتها المالية.