IMLebanon

“مصير” الفقمة “يُفاقم” قضية فيلّا عمشيت السكنية

كتبت كارين عبدالنور في “نداء الوطن”:

«الحقّ على مين؟». سؤال سببه قضية بناء فيلا سكنية. ومن هناك، على شاطئ عمشيت فوق أحد أطراف مغارة الفقمة الأثرية، تعود القضية إلى الواجهة. ذلك بعد أن تقدّمت جمعية «الأرض – لبنان» بمراجعة إبطال مع طلب وقف تنفيذ وتقصير المهل أمام مجلس شورى الدولة نهاية كانون الثاني الماضي. والمواجهة تتواصل بين مالك حاصل على رخصة بناء قانونية، وناشطين بيئيّين يحذّرون من انعكاسات أعمال البناء على الإرث البيئي الطبيعي اللبناني.
يعود النزاع القديم – الجديد إلى 02/12/2020 حين استحصلت مالكة العقار، السيّدة رولا بهنام، على رخصة بناء فيلا سكنية في العقار345 من منطقة عمشيت العقارية الواقع على شاطئ البلدة، فوق أحد أطراف مغارة الفقمة الأثرية. والرخصة، التي خوّلت مالكة العقار بناء طابقين سفليّين وآخرَين علويّين، يُعمل بها لمدّة ست سنوات.

بحسب التقارير، للمغارة قيمة بيئية مضافة لمنطقة عمشيت نظراً لقربها من الطريق العام والسهولة النسبية للوصول إليها كما إضاءتها الطبيعية من خلال الفتحات في سقفها. وهي تعتبر موئلاً لفقمة الراهب المتوسطية نادرة الوجود والمهدّدة بالانقراض في منطقة البحر الأبيض المتوسط، والتي تعيش بشكل طبيعي في المياه اللبنانية وتتّخذ لنفسها مأوى في الكهوف الصخرية المغمورة جزئياً بالمياه. فقد تمّ توثيق تواجدها أكثر من 71 مرة في لبنان خلال عشرين عاماً. أما في مغارة الفقمة في عمشيت تحديداً، وفي السنوات الثلاث الماضية، تم توثيقها وتصويرها أكثر من 12 مرة.

بدأت عمليات الحفر ليتحرّك معها الناشطون البيئيّون حاملين شعار «أنقذوا فقمة عمشيت». وقد تقدّموا بعدّة شكاوى إلى كافة الجهات المعنية – منها وزارات البيئة والثقافة والأشغال العامة – ما أدّى إلى وقف أعمال الحفر والبناء لغاية حزيران 2023. إلى التفاصيل.

بين أخذ وردّ

في 23/11/2021، أرسل وزير الثقافة كتاباً إلى رئيس بلدية عمشيت يطلب فيه إيقاف الأعمال بناءً على الكشف الميداني على المغارة الذي قامت به الجمعية اللبنانية لدراسة المغاور والدكتورة كورين يزبك من الجامعة اللبنانية. وبتاريخ 10/12/2021، طلب وزير البيئة بدوره وقف الأعمال إلى حين إجراء تقييم أثر بيئي وإعداد «خطة الإدارة البيئية». فما كان من المالكة إلّا أن أعدّت الخطة تلك بتاريخ 18/02/2022 وقدّمتها إلى الوزارة. وفي تموز 2022، أرسلت الأخيرة تعليقاتها على الخطة، ذاكرة مجموعة من الدراسات والأبحاث التي يتعيّن إنجازها.

بتاريخ 11/10/2022، تقدّمت مالكة العقار بكتاب إلى وزير البيئة تطلب بموجبه إبداء الرأي بأعمال البناء الجارية، بعد تعديل الخرائط الهندسية للبناء ورفع مستواه واستبدال آلات الحفر الأساسية بأخرى خفيفة. فما كان من الوزارة إلّا أن وافقت على متابعة الأعمال شرط التقيّد بمضمون «خطة الإدارة البيئية» وتجهيز المغارة بحسّاسات لمراقبة أي اهتزازات قد تصيب بنيتها. غير أن الاعتراضات لم تتوقف. فقد تقدّم الناشطون بشكوى إلى وزارة الأشغال العامة والنقل بتهمة التعدّي على الأملاك البحرية، ما أدّى إلى وقف أعمال الحفر مجدداً. وبدورها، قامت النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، القاضية غادة عون، في 19/01/2024 بإصدار قرار وقف أعمال البناء بانتظار إعادة دراسة الملف.

ماذا وراء العرقلة؟

مالكة العقار، السيّدة بهنام، شرحت لـ»نداء الوطن» ما تعرّضت له منذ ثلاث سنوات إثر بدء أعمال الحفر، رغم حصولها على كافة التراخيص المطلوبة. «تفاجأت بأشخاص يدّعون وجود مغارة تحت الأرض وتقدّموا بشكاوى إلى خمس وزارات. فقد تبيّن لوزارة الثقافة، بعد إيقافنا عن العمل، أن المغارة لا تقع تحت عقارنا بل العقار المجاور، كما أنها صنّفتها بغير أثرية. أما وزارة السياحة، فطلبت رفع مستوى المبنى، وهذا ما حصل حيث خسرت طابقاً سفلياً من البناء. كما أن وزارة البيئة طلبت استخدام معدّات خفيفة ومراقبة المغارة بواسطة حسّاسات كما إجراء دراسة بيئية، من ضمنها تقييم الأثر البيئي، وهذا ما حصل فعلاً. وأكّدت وزارتا الطاقة والأشغال أيضاً عدم وجود تعدٍّ على المياه البحرية».

الموافقات الوزارية لم تحل دون تواصُل توقّف العمل بالمشروع بانتظار قرار القاضية عون وقرار مجلس شورى الدولة. وتضيف بهنام: «أُتّهم بأني أتسبّب بقتل الفقمة لكنهم لا يعلمون مدى حرصي على البيئة والرفق بالحيوان. لست أنا من يقتل الفقمة داخل مياه البحر، إنما شباك الصيد والتلوّث وحركة القوارب. فأنا مهندسة ولا أتخطى القوانين وقمت بما يمكن القيام به لكن لا أعلم ما المطلوب مني بعد ومن يقف وراء هذه الحملة». بهنام لم تخفِ استغرابها من كون قادة الحملة البيئية من خارج نطاق عمشيت. وأكدت بأنها لن تسمح «للانتصارات» بأن تتحقّق على حسابها. فهي ملتزمة بكافة القوانين والتوصيات، كما تقول، في حين أن مخالفات الأملاك البحرية «على مدّ العين والنظر».

مشكلتكم مع الدولة

من ناحيته، يخبرنا أحد مهندسي إدارة المشروع أن كافة الدراسات المطلوبة من مختلف الوزارات قد أُنجزت، غير أن التقييم يعود للوزارات نفسها. «بما أننا نحترم القوانين البيئية وقرارات الوزارات المختصة، قمنا باستبدال آلة الحفر الكبيرة التي تزن 30 طناً بأخرى تزن 2.5 طن فقط. كما ابتعنا حسّاسات لمراقبة الارتجاجات لم تُنصب بعد نظراً لتوقّف الأعمال. ووافقت المالكة على خسارة طابق سفلي من البناء، علماً بأن المغارة لا تقع تحت العقار ذات الصلة، وأن البناء يعلو سقف المغارة بأكثر من 10 أمتار ويبعد عنها حوالى 20 متراً».

المهندس اعتبر أنه عادة ما يُشار هندسياً إلى المناطق الحسّاسة أو ذات الطابع الأثري، وهذا ما لم تشر إليه الوزارات والإدارات المعنية. فالاعتراض الوحيد هو من قِبَل الناشطين البيئيّين. وأردف: «إذا كان هؤلاء يرغبون بتحويل المنطقة إلى محمية طبيعية، فمشكلتهم ليست معنا إنما مع الجهات المخوّلة تعديل القوانين. من جهتنا، نشدّد على عدم ارتكاب أي مخالفة. وإن كان الهدف تغيير وجهة استعمال العقار، فهذه المسألة لا تُعالَج معنا، ولا حتى بهذه الطريقة. هناك دولة، وهي صاحبة القرار».

طمأنة وتحذير

على ضوء ما يحصل، رأى رئيس بلدية عمشيت، الدكتور أنطوان عيسى، في بيان الشهر الماضي أن أبناء البلدة يدركون كيفية الحفاظ على شاطئ بلدتهم. «نحن كبلدية لدينا تعهّد خطي من صاحبة العقار بعدم المسّ إطلاقاً بالمغارة، وطلبنا وضع آلة لقياس الارتجاجات والعمل بواسطة معدّات صغيرة، والأهم وجود مهندس من البلدية لمراقبة سير العمل». وذكّر بأن صاحبة العقار تملك ترخيصاً، ومن حقّها بناء منزل فوق العقار كون الملكية الخاصة حقّاً مقدّساً ولا يحقّ لأحد التعدّي عليها.

لكنْ، للخبير الجيولوجي، البروفيسور ويلسن رزق، رأي مغاير. فقد لفت قبل أيام إلى أن الحفرية التي استُحدثت في مكان التشييد زعزعت مكان الحفر وبات انهيار الطبقة الصخرية السفلى من جرائها محتملاً، لا سيّما مع وجود كهف تحتها. وحذّر من خطر داهم غير محسوب النتائج إن بقيت الأمور على حالها، مشدّداً على وجوب ردم الحفرية بمواد صخرية كي يعود الموقع إلى سابق عهده، كما تحييد المكان بعد الردم عن أي عمل إنشائي مهما كان نوعه.

الحقّ على الوزير؟

على المقلب الآخر، ذكر رئيس جمعية «الأرض – لبنان»، بول أبي راشد، في حديث لـ»نداء الوطن» أن المخالفة الكبرى قام بها وزير البيئة وليس صاحبة العقار، إذ على الدولة حماية المصلحة العامة كما التقيّد بالمعاهدات الدولية التي وقّع عليها لبنان. «مشكلتنا ليست شخصية مع السيّدة بهنام، فهي قرّرت أن تبني في عقار تملكه وهذا حقّها. لكن السؤال نوجّهه لمن سمحوا بإعطاء الرخصة في منطقة حساسة بيئياً، وعلى رأسهم وزير البيئة، قبل تقديم دراسة تقييم الأثر البيئي. هذا إجحاف بحقّ الفقمة ودليل واضح على طريقة التعاطي مع الأمور البيئة». لكن أليس التقييم موجوداً، بحسب صاحبة العقار ووزير البيئة؟ يجيب: «ليس صحيحاً. وإن كان موجوداً، فهل يمكنهم إبرازه؟ ما يتكلمون عنه هو فقرة وردت في متن دراسة «خطة الإدارة البيئية» وهي غير كافية. فتقييم الأثر البيئي يتطلب استدعاء السكان المحيطين بالمشروع وأخذ رأيهم، وهذا ما لم يحصل أبداً. كذلك لم يتمّ تضمين الدراسة أي شرح عن البيئة البيولوجية أو وصف البيئة المحيطة بالمشروع ولا حتى ذكر الفقمة. كفى تضليلاً للرأي العام».

من جهة ثانية، قال أبي راشد إن رئيس بلدية عمشيت وعد بسحب رخصة المشروع قبل الامتناع عن الردّ على الاتصالات لاحقاً. أما تأييد بعض أبناء البلدة لأعمال البناء، فليس عبرة بما أن هناك عريضة موقّعة من أكثر من 3,500 شخص من مختلف المناطق تطالب بوقف المشروع. «الفقمة هي قضية المتوسط بأكمله وليس فقط أبناء عمشيت. دخلنا يوم الاثنين الماضي إلى المغارة ولم نجد حتى الساعة أي حسّاسات لمراقبة الارتجاجات في مخالفة واضحة لقرار وزير البيئة. معارضتنا بيئية علمية قانونية بحتة وليست شخصية. والدليل أننا نتعاون مع أهم خبراء البحار لإجراء دراسات عن الفقمة في المتوسط ولبنان وعمشيت بشكل خاص».

بإزاء الاتهامات الموجهة إليه، أوضح وزير البيئة، ناصر ياسين، في اتصال مع «نداء الوطن»، أنه طلب منذ عام ونصف وقف مشروع البناء إلى أن قدّمت صاحبة العقار الدراسات البيئية المطلوبة وأزالت طابقاً من البناء كما تعهّدت بتنفيذ كافة التوصيات لتفادي أي ضرر بيئي على المغارة والشاطئ والمحيط. وتابع أن المغارة تستقبل الزوار بشكل دائم وتشهد أحياناً مناسبات خاصة كأعياد الميلاد. وعن سؤال حول تقييم الأثر البيئي، أكّد وجود دراسة بيئية كما «خطة إدارة بيئية» وهي أساس الدراسة، مذكّراً بأن مشروع البناء حصل على موافقة البلدية واتحاد البلديات وكل الوزارات والإدارات المعنية كما تفرض القوانين.

الآن، الجميع بانتظار مآل الأمور في مجلس شورى الدولة. أما «مصير» فقمة الراهب المتوسطية على شواطئنا، كواحدة من أكثر الأنواع المهدّدة بالانقراض، فيبقى عالقاً بين مدّ وجزر هو الآخر.