IMLebanon

الدولة تتسوّل تشغيل إداراتها: صحون وأكواب!

كتب فؤاد بزي في “الاخبار”:

أوكلت الحكومة أمر تشغيل دوائرها لما هبّ ودبّ من دول ومنظمات وجمعيات وأشخاص عبر الهبات. هناك هباتٌ بقيم كبيرة لا تمرّ عبر مجلس الوزراء ولا تقيّد أصلاً كإيرادات في الخزينة، بينما لا تمرّ جلسة واحدة لمجلس الوزراء من دون عشرات الهبات المتوسطة والمجهرية التي تتنوّع بين تركيب أنظمة طاقة شمسية وصولاً إلى الورق والحبر والصحون والأكواب والمفروشات المكتبية

نتيجة للأزمة الاقتصادية والنقدية وحالة الإفلاس غير المعلن، تهاوت خدمات الإدارة العامة. السبب لا يتعلق بغياب الموظّفين، بل عدم قدرة الإدارات والمؤسسات على تمويل الكهرباء والحبر والورق… لذا، يجري تشغيل القطاع العام بالهبات العينيّة والماديّة. بعضها يأتي من حكومات ومنظمات دولية، وبعضها الآخر من شركات وأفراد. الكلّ يضخّ في شرايين الإدارات الرسمية والبلديات والمؤسّسات العامة «عطايا» على شكل موارد تشغيلية. بالنسبة إلى القطاع الخاص، ما زال تشغيل القطاع العام يُعدّ عاملاً أساسياً لعمل الاقتصاد، إذ إنّ قوّة الدولة «تتمثّل في امتلاكها التوقيع الأساسي لتسيير أيّ معاملة» وفقاً لمالك شركة متبرّعة. لكن، هناك نوع آخر من الهبات ذو طابع سياسي أو مرتبط بعلاقة سياسية بين دول ومنظمات دولية مع القيّم على إنفاقها. هنا يمكن تسجيل نوعين من الفروقات؛ الأول أن هناك هبات بقيم كبيرة، إلّا أنها محدودة ومرتبطة بمشاريع سياسية، مقابل هبات بقيم متدنية تسهم في تخليص أعمال القطاع الخاص.

أما الثاني، فيتعلق بهبات تقيّد في الخزينة، وأخرى تمرّ «خط عسكري».في مدّة ما قبل الانهيار، كانت هناك مشكلة اسمها تقييد الهبات في حساب الخزينة، إذ لم يكن يسجّل بعضها كإيرادات، بل تعامل كأنها تمرّ عبر خطوط مستقلّة عن الدولة. الآن، أصبحت المخالفة أشدّ حدّة وسخرية، إذ إنّ بعض الهبات لا يسجّل، وبعضها الآخر تحوّل من قيم كبيرة إلى مبالغ بخسة. فعلى سبيل المثال، ورد في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، قبول هبة تبرّع بها أحد الطهاة، وهي عبارة عن «صحون وأكواب وبرّاد» لمصلحة المدرسة الفنية في عجلتون. وفي الجلسات الأخيرة لمجلس الوزراء، تكرّر وجود هبات بكميات من المازوت لا تزيد عن صهريج واحد، أو بونات بنزين. في إحدى الهبات ورد تقديم شركة بهيج عبد النور وكلاء «ديباجيو» هبة إلى وزارة الداخلية عبارة عن 175 قسيمة بنزين و75 قسيمة مازوت بقيمة إجمالية تبلغ 448 مليون ليرة (5 آلاف دولار). وزارة الطاقة الأميركية تبرّعت بهبة هي عبارة عن قطع غيار لبوابات الكشف الإشعاعي للجمارك بقيمة 731 مليون ليرة (8 آلاف دولار).

أيضاً من الأمثلة، هبات عبارة عن تأمين لآليات الدفاع المدني من شركة آروب ضدّ الغير وضدّ الحوادث والتأمين الإلزامي. الخارجية الصينية قدّمت هبةً إلى وزارة الخارجية في لبنان عبارة عن معدات مكتبية بقيمة 6 مليارات ليرة. هناك هبة من مركز حفظ الآثار الإيطالي عبارة عن عشرة ألواح ألمنيوم ومستلزماتها لوزارة الثقافة، كذلك ورد أنّ صيانة آليات الدفاع المدني بكلفة 105 ملايين ليرة، فضلاً عن تبرّع بقيمة 1.5 مليون ليرة لأحد مراكز الدفاع المدني أيضاً… ثمة كثير من الهبات التي تُرفع إلى مجلس الوزراء، وغالبيتها متعلّق بتسيير الأعمال اليومية مثل المحابر والورق التي تحتاجها الإدارات العامة لتشغيل آلات الطباعة.

عن قصد، قرّرت الحكومة ترك القطاع العام و«داتا» اللبنانيين فيه عرضةً للنهب متنازلةً عن سيادتها، هي تعلم تماماً أنّ غالبية الواهبين يضعون شروطاً على استخدام هباتهم، لا سيّما المنظمات الدولية. على سبيل المثال الدولة الألمانية لا تقدّم شيئاً إلا إذا كان استخدامه الأخير يستفيد منه النازح السوري في لبنان، على قاعدة «المجتمعات المضيفة». ومن الهبات التي تصنّف في هذا الإطار أيضاً، تلك التي حصلت عليها مديرية التعليم العالي بوصفها «هبة نقدية مشروطة بإرادة الواهب» مقدّمة من وزارة التربية العراقية، إنما من دون ذكر تفاصيل الهبة ولا قيمتها.

ومن الهبات التي لا تمرّ في القنوات الرسمية، قيام رئيسة إحدى الدوائر بإخبار المراجعين عبر تطبيق «الواتسآب» بنفاذ محبرة الطابعة. ولحساسية عمل هذه الدائرة، أغدقت الشركات الخاصة التي تتعلّق أعمالها بها عليها بـ«مواعين ورق والمحابر» لتسيير أعمالها، حيث يحضر مندوبو الشركات المراجعة حاملين صناديق الورق. وفي هذه الدائرة ذاتها، قامت إحدى الشركات بتركيب أجهزة تكييف نقالة في كلّ مكاتب الموظفين الحكوميين. في بعض الدوائر، كانت الرشى هي الهبة التي يحصل عليها الموظفون مقابل حضورهم إلى العمل وإنجاز بعض المعاملات، لأنّ المسألة باتت متصلةً بالرواتب الزهيدة التي يتقاضونها، أو بأنهم يحتاجون إلى الانتقال والكهرباء… أيضاً ثمة هبات عبارة عن رواتب حصل عليها القطاع العسكري من الولايات المتحدة الأميركية ومن قطر، وليس واضحاً إذا كانت هناك هبات مماثلة، لأن جميعها لم تدخل عبر القنوات الرسمية، بل فتحت فيها حسابات مباشرة في مصرف لبنان يصرف منها القيّمون على الإدارات المعنية فقط.

يتبيّن من رصد الهبات أنّ هناك تركيزاً واضحاً على أنظمة المكننة في الوزارات التي يتيح الدخول إليها سيطرةً كاملةً على حركة الموظفين. ففي وزارة التربية مثلاً، قدّم البنك الدولي 136 مليون دولار، بشرط تشغيل برنامج «سيمز» الواقع تحت السيطرة الكاملة للجهات المانحة عبر موظفيها العاملين في الوزارة، بالإضافة إلى المسؤول عن ربط المدارس بالوزارة التي تتم عبره مراقبة دوامات الأساتذة والعاملين الإداريين والمعلومات الشخصية الخاصة بهم وبالتلامذة. ومنذ مدّة قليلة، خضعت وزارة التربية لطلب اليونيسيف، وفتحت أبواب مدارسها أمام شركة تدقيق أردنية لمراجعة المعلومات الشخصية الخاصة بالأساتذة.

أعدّت لجنة المال والموازنة عشية مناقشة موازنة عام 2024 تقريراً عن الهبات. ورد في التقرير أن اللجنة طلبت من وزارة المال تزويدها بالهبات المسجّلة في الخزينة بين 2018 و2023. ردّت المالية بلائحة تشير إلى احتساب 79 هبة، بينما «ما يعود إلى هذه المدّة هو 19 هبة فقط، والباقي يعود إلى المدة ما بين 2011 و2017». وبلغت قيمة الهبات المسجّلة في حساب الخزينة للمدّة المذكورة، أي منذ 2011 حتى نهاية 2023، نحو 365 مليون دولار. الرقم المتدني يعود بحسب لجنة المال والموازنة إلى أن الجهة التي تقبل الهبة تفتح حساباً خاصاً بها في مصرف لبنان، ما يؤدي إلى «تعدّد الحسابات وخرق مبدأَي وحدة الصندوق ووحدة المحاسبة، ويحول دون توحيد هذه الحسابات سنوياً»، فضلاً عن أن «إنفاق الهبة بواسطة سلفة موازنة طارئة، يخرجها عن الرقابة المسبقة، سواء من قبل مراقب عقد النفقات، أو ديوان المحاسبة».