IMLebanon

“14 آذار”: Too good to be true

كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:

عادة تسلك الكتابات في الثورات منحى نقديّاً دراماتيكيّاً وحتّى ندبيّاً. لكن من المجحف نكران انتصاراتها وطمس لحظاتها ونسيان شريط صورها وأحداثها. في 14 آذار 2005، تواعد اللبنانيون للمرّة الأولى في ميدانٍ واحدٍ، من مختلف شرائحهم وطوائفهم وعقائدهم. من يمينهم إلى يسارهم. في مثل هذا اليوم قبل 19 عاماً… كان أجمل الأحلام وأقساها. من أقاصي البلاد نحو قلب المصير، زحفوا، صرخوا، كتبوا عنواناً عريضاً محبّراً بالدم في أسفار التاريخ، ثمّ أحيل إلى غرف الأرشيف ومتحف الذكريات، رُغم محاولات الإنعاش. من عاش تلك النشوة والغضب، وأدرك غبطة الجماهيرية الثائرة، لم يُصدّق أنّ الجيش السوري سيخرج من لبنان (26 نيسان 2005) بعد 30 عاماً من الاحتلال، وأنّ «المليونية» التي اجتاحت الساحات والوجدان، سيُضحّي بها «بعض» أركانها وزعاماتها، بعد أنّ ضحّت في سبيلها قافلة من الشهداء والأحياء. أَيُنسى ذاك النهار؟ أيستعيد أحداثه على قاعدة أنّ «التاريخ يُكرّر ذاته»؟

«14 آذار» لم تكن وليدة ساعتها أو ظروفها الراهنة آنذاك، بل هي ثمرة نضال طويلٍ. آتية من شوقِ انعتاقٍ عتيق. من ضربات الجلّاد وعتمات السجون والمعتقلات والمنافي. من صيحات الجامعات والكليات، من عصا البطاركة وصرخة المطارنة و»لقاء قرنة شهوان» و»تجمّع البريستول»، وصولاً إلى جريمة 14 شباط. وأيضاً من تظاهرة «8 آذار» و»شكراً سوريا»، من كلّ هذه العوامل خرجت انتفاضة الاستقلال. فالاحتلالات والوصايات على أنواعها أكانت مكشوفة أم مستورة، مصابة بمتلازمة الغطرسة Hubris Syndrome، لا ترى أنّ بطشها وقسوتها وتعنّتها هي متمّمات غذائية تُنمّي وحش التحرّر… ولا تعتبر.

حتى الثورات لا تتّعظ، سرعان ما تستسلم للعبة الظروف والمصالح الضيّقة (ليست بالضرورة أن تكون شخصية أو فردية). فحال 14 آذار، مادة تُدرّس في هذا المضمار. منذ صعودها حتى سقوطها، من إحياء ذكراها السنوية الأولى باحتفال شعبي في ساحة الشهداء، إلى تجمّع محصور بإحدى «صالات» البيال، إلى مؤتمرات صحافية لبعض رموزها وأركانها، لتنتهي بتغريدات ومنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي. فبات السؤال: ماذا بقي منها؟

لعلّ الصورة الأكثر تعبيراً عمّا آلت إليه مشهدية «14 آذار»، أن أحد أركانها وأقطابها أي رئيس «تيّار المستقبل» سعد الحريري أعلن اعتزاله الموقت أو تعليق عمله السياسي. يضاف إلى ذلك، بروز متغيّرات عديدة داخلية وخارجية ساهمت في تشظّي «تحالفها» وضموره حتى الاختفاء. ولا ننسى أنّ الاغتيالات التي طالت رموزها من نوّاب ومفكرين وصحافيين ومؤيّدين لخطّها من سمير قصير، وجورج حاوي، وجبران تويني، وبيار الجميّل، وأنطوان غانم، ووليد عيدو، ووسام عيد، ووسام الحسن، ومحمد شطح، و»غزوة» بيروت عام 2007 وما رافقها من أحداث ومعارك عسكرية في الجبل وغيره من المناطق، ساهمت في إضعافها وشرذمتها مع انسحاب الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط من كنفها.

ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّ «انتقال» العماد ميشال عون إلى الضفّة المناهضة، وتوقيع تفاهم «مار مخايل» مع «حزب الله»، عزّز صفوف قوى الثامن من آذار التي كانت تفتقر إلى شريك مسيحيّ وازنٍ. في المقابل، لم تتمكّن 14 آذار ولأسباب متشعّبة، من خلق حيثية شعبية وسياسية داخل البيئة الشيعيّة رغم احتوائها مفكرين ومناضلين، أسهموا في بلورة وتكوين تحالف «القوى السيادية».

إلى ذلك، لعبت التحوّلات الدولية والإقليمية، وهبوب الثورات في عدد من الدول العربية، دوراً في انحياز هذه الدول للاهتمام بشؤونها ومشاكلها الداخلية. في المقابل، أدّت هيمنة «حزب الله» على مفاصل الحكم وزجّه في صراعات المنطقة وتقدّم «محور الممانعة» في لبنان، إلى زعزعة العلاقات التاريخية بين لبنان وبلدان مجلس التعاون الخليجي. أمّا باريس التي شكّلت رافعة دولية وأوروبيّة لـ»ثورة الأرز»، فتراجعت اهتماماتها و»تنوّعت» مصالحها اللبنانية بعد رحيل الرئيس الفرنسي جاك شيراك.

تبدّلت الظروف وتغيّرت المعطيات، ملفات تقدّمت وأخرى تراجعت مع انفجار الأزمة الاقتصادية وانتفاضة «17 تشرين» التي لم ترتق في أهدافها ووضوحها إلى ما كانت عليه «انتفاضة الاستقلال». وعلى الرغم من تشكيل تحالفات جديدة ودفن تحالف «14 آذار» بالشكل الذي كان عليه، تبقى العناوين التي رفعتها «ثورة الأرز» أي «السيادة، الحرية والاستقلال» هي المداميك الأساسية لتحقيق بناء الدولة وميزان العيش المشترك والخروج من هذا النفق المظلم.