IMLebanon

علما الشعب بين عَبق التاريخ وعِبء الجغرافيا

كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:

هي جارة البحر. بلدة جميلة، تجلس كصبيّة فاتنة على شرفتها عند غروب الشمس. كان الصيف يسهر في ساحاتها، ويتناغم مع نسائمها وأهلها المقيمين والمغتربين المنجذبين إليها من كلّ جهات العالم. شوارعها نظيفة كأنّها اغتسلت من زرقة المياه. تتزيّن مداخلها بالورود كعروس يوم زفافها، والأشجار تصطفّ كحرّاسٍ إلى جانبي دروبها. بيوتها العتيقة تشهد على أصالتها وحكايات الأجداد، ومنازلها العصرية تُخبر نجاحات الأبناء. إنها علما الشعب، زهرة قضاء صور. كانت كذلك، كانت الفرح والحياة، قبل أن تحلّ الحرب ضيفاً ثقيلاً عليها. لم تتخيّل أن موقعها على الطريق الروماني القديم، وخطّ الناقورة الدولي، سيتقاطع مع «طريق القدس»، وأنّ تُهشّم «وحدة الساحات» هناءها واستقرارها وتُشتّت عائلاتها. من بقي فيها يُلاعب الموت والخطر ومن نزح ترك قلبه هناك، أي كلّ شيء، وأخذ معه حسرته وحزنه.

نعود إلى واقعها الأليم وميادينها الساخنة مرغمين، كأننا نريد البقاء هناك، في تلك الأيام التي سبقت الثامن من تشرين الأول. أصبحت علما الشعب مسرحاً للعمليات الحربية وتراشق النيران. مع اندلاع المعارك بين «حزب الله» وإسرائيل، اقتصر القصف الإسرائيلي على المدفعية، لكن منذ شهر ونيّف تطوّرت الأحداث ودخل الطيران الحربي جبهتها. موقعها الاستراتيجي رماها في بيت النّار، إذ يقابلها في الجانب الآخر من الحدود موقعا حانيتا واللبّونة العسكريان الإسرائيليان، ما جعلها بين فكّي المتحاربين.

لم تعد الأهداف مقتصرة على الأحراج والبساتين. استهدفت المنازل ودُمّر 8 منها بشكلٍ كاملٍ ونحو 16 وحدة سكنية قُصفت أكثر من مرّة. أمّا البيوت المتضرّرة بشكل غير مباشر فبلغت المئة، وفق نائب رئيس بلديتها ويليام الحدّاد. هو واحد من أبنائها الـ105 المغامرين الذين فضّلوا البقاء. أرسل عائلته إلى بيروت ويزورهم كلّما سنحت له الفرصة. حوالى 750 شخصاً نزحوا، ويتابع أوضاعهم وشؤون المقيمين في البلدة رئيس البلدية جان الغفري بالتنسيق مع نائبه وكافة الأعضاء والفاعليات. أثبتت البلديات رغم عجزها وترهّلها وإمكانياتها المحدودة أنها السلطة الفعلية والمعنوية على الأرض، غاب المسؤولون وتركوها لمصيرها، وفيما تنشغل القوى السياسية بكيفية تعطيل الاستحقاقات الدستورية وتمديد الأزمات، تُكافح المجالس البلدية في سبيل تأمين عناصر الحياة والبقاء.

يُشير الحدّاد إلى أنّه «منذ بداية الحرب، انقطع التيّار الكهربائي العائد لمؤسسة كهرباء لبنان، وبات الاتكال على المولّدات الخاصة التابعة للبلدية، إذ نقوم بإضاءة المنازل وبعض الشوارع 18 ساعة يوميّاً، تنقسم إلى ستّ ساعات خلال النهار والأخرى مساءً، كما ساهمت الكتيبة الفرنسية في قوّات الأمم المتحدة «اليونيفيل» في تقديم مولّد كهربائي بقوّة 100 KVA». لا تقتصر عواصف الاحتراب والنزاعات على الحجر والبشر، ما يؤلم ويليام الحداد أيضاً، هو «جهد السنين، فكلّ عِرْق زيتون احترق شطب معه تعب الآباء والأجداد الذين كدحوا وزرعوا وسقوا مزروعاتهم بعرقهم ودموعهم». في السياق، لفت نائب رئيس البلدية إلى أنّ أكثر من 800 شجرة زيتون إضافة إلى «الأفوكا» و»القشطة» وغيرها من الأشجار المثمرة، قد احترقت جرّاء القصف الذي حصد معه مواسمها كافة. فهوت سنابل القمح وطحنت المعارك بذورها في بيادر الحروب.

في الختام، صحيح أن اسم علما الشعب دخل عناوين وأخبار القصف اليوميّ إلى جانب الناقورة، الضهيرة، يارين، مروحين، عيتا الشعب، رميش وغيرها من القرى الحدودية، غير أنّ صيتها لا تَحجبه الحروب ورمادها، فصُنّفت واحدة من بين أجمل 60 بلدة لبنانية، لينطبق عليها المثل «نيال لي عندو فيها مرقد عنزة». يعود وجودها الحالي في التاريخ الحديث إلى حوالى 450 سنة، حيث بدأ أهلها يتوافدون إليها نظراً إلى أرضها المرتفعة فوق هضبة مطلّة على ساحل الناقورة، وشرعوا في بناء بيوتهم من حجارتها التي زوّدوها صلابة ومتانة بعرقهم ومحبتهم وتضحياتهم. وبسبب الفقر والحاجة والاضطهاد آنذاك، اعتمد كلّ من يرغب في بناء بيته على تشييد ثلاثة جدران على أن يكون حائط جاره هو الرابع، وكانوا يحرصون على عدم رفع عتبة باب الدار لئلّا يدخلها الخيّالة الغزاة، وبذلك أخذت البيوت شكلاً دائريّاً.

معظم سكّانها من الموارنة والروم الملكيين الكاثوليك و»الإنجيليين». تميّزوا بالزراعة والعلاقات الأخوية مع محيطهم، كما بحبّ العلم والمعرفة، ولمع أبناؤها في المؤسّسة العسكرية (ضبّاطاً وأفراداً) وكافة المجالات المدنية. نذكر على سبيل المثال، أنّ أوّل دفعة تخرّجت من كلية الطبّ في «الجامعة الأميركية في بيروت»، أوائل القرن التاسع عشر، كان بين صفوفها الدكتور إبراهيم زُعرب.