IMLebanon

نؤمّن لكم عاملات سوريات

كتب عبدالله عبد الصمد في “نداء الوطن”:

حصلت 73778 عاملة منزلية على إجازات، أو تجديد إجازة، من وزارة العمل اللبنانية في العام 2023، بينهنّ عشر سوريات فقط، وفق الإحصاءات الرسمية للوزارة. بالإضافة الى 37235 موافقة مسبقة. في حين يعمل بطرق غير قانونيّة عدد لا يمكن تحديده من العاملات السوريات الداخلات خلسة، أو اللواتي يقمنَ في لبنان بصفة لاجئات. لقد عاد قطاع العمالة المنزليّة ليسجل انتعاشاً واضحاً، لكن بمضاربة سوريّة وبتربّح غير شرعي.

بعد طلاقها من زوجها، تدهور وضع «سامية» المعيشي، فراحت تبحث عن مصدر دخلٍ يعيلها. قريتها الصغيرة الواقعة في سهل الغاب، بين محافظتَي حماه وإدلب، لا تتيح فرص عملٍ للجميع. فجُلّ ما فيها بعض البساتين وثريٌّ واحد يملك أكثرها، ولا يمكنه توظيف الجميع.

منذ شهرين، أو أكثر بقليل، حصلت «سامية» على الرقم اللبناني لهاتف سيدة سوريّة تُدعى «هناء»، تعمل في لبنان منذ العام 2021. وتؤمّن أعمالاً في الخدمة المنزلية لنساء وفتيات سوريات. أحد أقاربها أعطاها الرقم، وقال لها «قولي انك من قِبَل فلانة» (لم تعد تذكر الإسم).

تواصَلَتْ على الفور مع «هناء»، التي تعمل في أحد المنازل في جبل لبنان، وتمتهن مع سيدة المنزل تنسيق تأمين عاملات منزليات مقابل بدل ماديّ. فمهمة ربّة المنزل تأمين العمل، ومهمّة «هناء» التواصل مع النساء السوريات ومع المهرّبين في الداخل السوري. وهنا لا بدّ من الإشارة الى أن التنسيق مع جهة واحدة كافية للإحاطة بكلّ تفاصيل الرحلة، كما قالت، فالمهرّبون ينسقون في ما بينهم. يبقى على المرأة الداخلة الى لبنان الاختيار ما بين أن تدفع للمهربين 150 دولاراً أميركياً وتدخل بطريقة سهلة، أو ألا تدفع من جيبها أي أجر ماديّ، وتدخل بطريقة صعبة وقاسية، على أن تتقاضى العصابة أجرها من صاحبة المنزل التي طلبتها للعمل.

في الطريق إلى لبنان

خرجت «سامية» من منزلها قبل نهاية نيسان 2024، بحقيبة ثياب واحدة وحقيبة نسائية صغيرة فيها أوراقها الثبوتية وبعض المال الذي لا يكفي إلا لشراء بعض الطعام. كان موعد اللقاء في مركز التجمّع عند الرابعة عصراً. بدأ المطر، لكنّ درجات الحرارة ما زالت مقبولة. عند السابعة مساءً انطلقت ثلاث سيارات رباعية الدفع تقلّ عدداً ممن تجمّعوا،. كانوا خمسة عشر شخصاً، أو عشرين بأكثر الأحوال، بين رجال ونساء وأطفال. لكنهم شاهدوا عدة سيارات وفانات وشاحنات صغيرة تقلّ آخرين الى جهات أخرى. توقّفت السيارات الثلاث عند مرتفع صخري صغير، وطُلب منهم السير السريع خلف شاب، بدا أنه عشرينيّ السنين. فيما سار خلفهم شاب آخر يكبره بعدّة سنوات.

كان ممنوع على الجميع أن يسألوا عن الطريق الذي سيسلكون، أو عن كيفية العبور. عاملهم المهربون بقسوة وأحياناً بعنف، وكان الطريق طويلاً وصعباً، حتى ظنّوا أنهم لن يبلغوا وجهتهم أبداً. لكنهم وصلوا قبل الفجر الى حاوية كبيرة «container»، مطمورة بالكامل بين الصخور، بحيث لا يظهر إلا بابها، وكان عليه غطاء تمويهي. مكثوا فيه كلّ النهار. قالوا لهم إنهم مازالوا في سوريا. منهم من أحضر في حقائبه طعاماً، ومنهم من لم يفعل، وكانت من بين أولئك امرأة حامل، تقاسموا معها طعامهم وشرابهم، وساعدوها في الأمكنة الوعرة.

بعدما حلّ الظلام، فُتح باب الحاوية، وواصلوا التقدّم باتجاه أحد المعابر. بعد مسير تخللته شتائم وأحياناً ضرب من قبل المهرّبين، لحثّ المتسللين على السرعة والسكوت، وصلوا أخيراً الى منزلٍ ناءٍ في لبنان (لم تعرف في أي منطقة هو). لكنهم نالوا فيه قسطاً من الراحة، وقُدمت لهم أطباق البيض واللبن والجبن، ثم ناموا فيه بقية يومهم ممنوعين من الاقتراب من النوافذ.

خلال المسير الأخير كانت «سامية» قد فقدت حقيبة ثيابها، فمضت بحقيبة اليد الصغيرة. وفي المساء أعادوا الانطلاق سيراً على الأقدام، لمدة تزيد عن ساعتين، ثم وصلت سيارة تاكسي (لوحة لبنانية)، أقلّت «سامية» ومعها شاب وزوجته وطفلان. توجهّت السيارة مباشرة الى بقعاتا، وهي أحد التجمعات السكانية الكبرى في الشوف، فغادر الزوجان مع طفليهما وكأنهما يعرفان الوجهة المقصودة، وسُلِّمت «سامية» بنجاح للمرأة اللبنانية.

تعددت الطرقات

«نداء الوطن»، التقت «سامية» في مكان إقامتها الجديد، وعلمت منها أنها باتت تساعد كل من يرغبنَ في الانتقال من سوريا الى لبنان بواسطة «هناء» وشريكتها اللبنانية.

لكنَّ «ميثاء»، سلكت درباً أسهل من ضواحي دمشق الى بيروت، حيث أنفقت 150 دولاراً أميركياً خلال رحلتها عبر قرى متداخلة، بالإضافة الى مئتين أخريين من صاحبة المنزل التي طلبتها من سوريا. نقلتها حافلة صغيرة (فان)، مع آخرين، من إحدى ضواحي دمشق الى أحد البساتين القريبة من الحدود اللبنانيّة. ليسيروا بعدها في مجموعة من عشرين شخصاً على طريق ترابي داخل البستان لمدة لا تتجاوز النصف ساعة، ثم مكثوا منتظرين إشارة من أحد المراقبين. سرعان ما وصلت الإشارة المنتظرة، فتابعوا السير باتجاه الأراضي اللبنانية، حيث كان بانتظارهم شاب لبناني ملثَّم (عرفته من لهجته)، وآخرون موزعون على أطراف الطريق، ربما كانوا اثنين أو أكثر، لم تستطع التحديد، كانوا جميعهم مسلحين. فساروا معاً لأقلّ من نصف ساعة أيضاً، حتى وصلوا الى شاحنات صغيرة (بيك أب)، نقلتهم تباعاً الى مستودع تحت الأرض في إحدى المناطق البقاعية. وفي الصباح جاءت سيارات خاصة أقلّتهم الى بيروت، وأوصلت إحداها «ميثاء» الى المنزل المطلوب مباشرة.

إذاً، تكلفة استقدام عاملة منزلية من سوريا بطريقة غير قانونية، تبلغ ما بين 200 و350 دولاراً بحسب طريقة العبور، أما إحضارهنّ من مكاتب الاستقدام فهو مستحيل اليوم، كذلك الحصول على إقامة، أو تجديدها، سنداً لتعهّد المسؤولية – شخصي، عملاً بقرار تنظيم ملف السوريين، وفقاً لما قاله مصدر في الأمن الأمن العام لنداء الوطن. في حين تبلغ التكلفة الأدنى لإحضار عاملة أجنبية 1650 دولاراً أميركياً (هذا المبلغ للعاملات من الجنسية السريلانكية تحديداً)، ليرتفع المبلغ بحسب اختلاف جنسية العاملة، بحسب ما أفادنا به صاحب أحد مكاتب الاستقدام في جبل لبنان.

«سامية» و»ميثاء»، عبرتا الى لبنان بعد إتمام الإحصاء الذي أعدَّته البلديات لعدد الرعايا السوريين المقيمين ضمن نطاقاتها. أولئك الوافدون حديثاً ليسوا نازحين، إنهم متسلّلون، دخلوا الأراضي اللبنانية خلسة أملاً في تحسين أوضاعهم المعيشيّة. كذلك أولئك العاملات اللواتي دخلنَ بين المتسللين، لا بدّ أن يتسبّبنَ بإرباك الإحصاءات المتعلقة بقطاع العمالة المنزلية.

العمالة المنزلية، قطاع يلزمه تجديد

يقول النقيب مارون الخولي، المنسق العام للحملة الوطنية لإعادة النازحين السوريين لـ»نداء الوطن»، إن قطاع العمالة المنزلية، بشكل عام، تلزمه استراتيجية جديدة ومقاربة مختلفة. فهو يساهم في إخراج النقد الأجنبي من البلاد بشكل مثير للقلق. فلو اعتبرنا أن عدد العاملات المنزليات الأجنبيات 150000 عاملة (لا يوجد إحصاءات دقيقة بسبب العمالة غير الشرعية، لكنّ هذا العدد يُعتبر الأدنى وفقاً لعدّة إحصاءات غير رسمية)، وأخذنا معدّلاً وسطياً لراتب العاملة 250 دولاراً، يكون مجموع الرواتب 450 مليون دولار سنوياً. وهو رقم ضخم بالنسبة للاقتصاد الوطني. لذلك على الدولة إعداد خطة وطنيّة لتقليص هذا العدد، من دون إلحاق الضرر بمن هم بحاجة للمساعدة.

وأضاف، أن لا استقامة لهذا القطاع إلا باتباع الأنظمة المعتمدة في الدول الغربية، كالعمل النهاري، أو العمل بموجب اتفاق موقت، لقطع الطريق على التجاوزات الإنسانية والأمنيّة التي نراها اليوم. مما يحدّ أيضاً من احتماليات التهريب أو الإتجار بالبشر.

وكان قد انخفض تصنيف لبنان العالمي عن العام 2023، في ما يتعلّق بالاتجار بالبشر، الى قائمة المتابعة من المستوى الثاني Tier 2 watch list كنتيجة للإدارة الحالية لملف العمالة المنزلية، بحسب ما ذكرته الهيئة العامة لحقوق الإنسان في لبنان على موقعها الإلكتروني.

سلّة متكاملة لمحاربة التهريب

يثني النقيب الخولي، على الدور الذي يلعبه الجيش اللبناني المنتشر على الحدود للحد من عمليات التسلّل والتهريب. لكن برأيه، هذا وحده لا يكفي، طالما لم تتشدّد الدولة بتطبيق القوانين، ولم تؤمن البدائل لسكان القرى الحدوديّة، خصوصاً للمجتمعات الفقيرة منهم. بحيث لا يمكن لهذا الملف أن يُعالَج أمنياً وتُهمل جذوره الاقتصادية. وبرأيه، أن على الدولة اللبنانية الحضور في تلك المناطق بخدماتها، كما بأجهزتها. فمن مهامها الضروريّة، إنشاء الأسواق وتشجيع الصناعات الصغيرة وحماية المزارعين، وتوفير المدارس بمعايير مقبولة، واستحداث مستشفيات، وبالأخصّ إقامة مراكز لوزارة الشؤون الاجتماعية، وإنشاء سرايات ومحاكم تسرّع الأعمال القضائيّة. الى جانب حملات توعية دوريّة. فحضور أفواج حرس الحدود وحده لا يكفي.

المتسلّل ليس لاجئاً

عرّفت الأمم المتحدة اللاجئ بما يأتي: «كلّ شخص يوجد، بسبب خوف له ما يبرّره من التعرّض للاضطهاد… خارج بلد جنسيته، ولا يستطيع، أو لا يريد بسبب ذلك الخوف، أن يستظل بحماية ذلك البلد، أو كلّ شخص لا يملك جنسية ويوجد خارج بلد إقامته المعتادة السابق بنتيجة مثل تلك الأحداث ولا يستطيع، أو لا يريد بسبب ذلك الخوف، أن يعود الى ذلك البلد». أما المتسلّل، وفق المعايير الدوليّة، فهو من عبر الحدود من دولة الى أخرى خارج المعايير التنظيمية لدولة العبور ودولة الاستقبال، وكل من لم يتطابق انتقاله مع بنود اتفاقيات الأمم المتحدة المتعلقة بهذا الأمر.

وقد حظّر القانون اللبناني على كلّ أجنبي أن يتعاطى عملاً أو مهنة في لبنان ما لم يكن مرخصاً له بذلك من الوزارة المختصة. ويُعتبر أجنبياً، كلّ شخص حقيقي من غير التابعيّة اللبنانية. أما بالنسبة للإجراءات المتّبعة من الأمن العام، فأكّد المصدر السابق، أن ضبط العاملات المنزليات الداخلات خلسة، هو أكثر صعوبة من ضبط العمال الآخرين. فهنَّ نادراً ما يغادرن منازل المخدومين، وبالتالي يصعب على الأجهزة ضبطهنّ. لكن بجميع الحالات، كل مواطن سوري أوقف بجرم الدخول خلسة الى لبنان، يُرحَّل ويسلَّم الى السلطات السورية، ويتم إصدار بلاغ منع دخول بحقه لمدة سنة في المرة الأولى، وخمس سنوات في المرّة الثانية، ولمدة عشر سنوات في المرّة الثالثة. في حين نصّت المادة 32 من قانون تنظيم الدخول الى لبنان والإقامة فيه والخروج منه، المعدّل بالقانون رقم 173/2000 أن عقوبة كلّ أجنبي يدخل لبنان بطريقة غير قانونية، هي الحبس من شهر الى ثلاث سنوات ودفع غرامة ماليّة والإخراج من البلاد بعد تنفيذ العقوبة. أما الإقدام على نقل الداخلين خلسة، فيعتبر بمثابة التدخّل في الجرم بحيث تنزل فيه عقوبة الفاعل الأصلي، ما عدا الترحيل إذا كان لبنانياً.

حتى الوصول الى حلّ شامل لأزمة النزوح والعبور والتسلُّل، هل علينا انتظار المزيد من مجموعات تختلس اللحظات المناسبة للتسلّل الى بيوتنا؟