كتب عيسى يحيى في “نداء الوطن”:
بقيت أزمة الحدود اللبنانية – السورية منذ الاستقلال الرسمي للبلدين عالقة في دهاليز التجاذبات السياسية، والسياسات الممنهجة للنظام السوري لتعميق حالة التبعية اللبنانية وإبقاء لبنان ضمن نفوذه الإستراتيجي، ما أدى إلى تفاقم المشكلة حتى باتت الحدود ملاذاً آمناً للأنشطة غير الشرعية، من تهريب السلع والسلاح وحتى الأفراد، وباتت معضلةً جغرافية وسياسية يصعب حلّها.
رغم المطالب اللبنانية المتكررة بترسيم الحدود مع سوريا، غابت الإرادة السورية عن تنفيذ ذلك، كون الترسيم هو اعترافٌ سياسي بسيادة لبنان الكاملة، وهو ما كان يرفضه النظام السوري الهارب، منذ أيام الأب، كون العقلية السورية تعتبر لبنان جزءاً لا يتجزأ من سوريا، وهو ما عبرّ عنه بوضوح الناشط الحقوقي هيثم المالح منذ أسابيع في قوله: لبنان جزء من سوريا ويجب أن يعود إلى سيادتنا، ما أشعل عاصفة انتقادات لبنانية ضده. تلك التصريحات التي أتت في وقتٍ كانت الحدود اللبنانية السورية تشتعل عند بلدتي سرغايا ومعربون، ودفعت الرئيس نجيب ميقاتي الذي تواصل سرّاً مع الإدارة الجديدة عند تسلمها الحكم في الأيام الأولى لسقوط النظام، إلى المجاهرة بالاتصال بالسيد أحمد الشرع لبحث تداعيات الإشكال.
الاتصال الذي فتح الباب أمام الرئيس ميقاتي لزيارة سوريا، وبحث ملف الحدود بين لبنان وسوريا، والوقوف على الموقف الرسمي للإدارة الجديدة من الملف، والتي أكدت بلسان الشرع على احترام سيادة وحدود لبنان، وأن الملف يحتاج إلى وقتٍ لحله كون النظام الجديد في طور البنيان، والأزمة عمرها عشرات السنين، وتحتاج وقتاً وجهداً. فيما سارع النائب السابق وليد جنبلاط إلى الإقرار بسورية مزارع شبعا خلال زيارته الشرع، وهو ما لم يفهم إن كان هدية يقدمها للإدارة الجديدة أم قطعاً للطريق على استمرار المقاومة التي تربط بقاءها بتحرير الأراضي اللبنانية كافة.
استخدم النظام السوري الهارب الحدود كرئة اقتصادية أبقته قادراً على الصمود في وجه العقوبات الدولية التي فرضت عليه، فكانت عمليات تهريب السلع المدعومة من لبنان إلى سوريا والمحروقات التي لم تتوقف حتى الآن، ما أدى إلى استنزاف الاقتصاد اللبناني وتكبيده خسائر كبيرة، وتحولت معه أيضاً إلى مسرحٍ للفوضى، استغله المهربون والجماعات المسلحة لتهريب السلاح والمخدرات، وأصبحت ساحات مواجهة مفتوحة مع الجيش اللبناني والقوى الأمنية، عملت بكل ما أوتيت من إمكانات على ضبطها رغم طول الحدود، والطبيعة الجغرافية الوعرة كسلسلة جبال لبنان الشرقية من معربون حتى الهرمل، إضافة إلى المناطق الشمالية.
منذ سقوط النظام وقعت عدة إشكالات على الحدود، منها ما هو متعلق بالتهريب، وأخرى سعت إلى جرّ هيئة تحرير الشام التي تتسلم زمام الحدود من الجهة السورية إلى الوحول اللبنانية، وتقديمها بمشهد يسوق له عن التشدد الإسلامي، وخلفيتها الدينية التي كانت عليها عند بدء الثورة السورية، وسعيها للدخول إلى لبنان مجدداً، وممارسة سياسة الانتقام من البعض. كذلك ارتفعت أصوات منذ أيام تحمل في طياتها نفساً طائفياً، وتحاول تظهير ما بعد سقوط النظام السوري وتبدل المشهد الإقليمي، على أنه صراعٌ سني شيعي، مهددة السوريين السنّة أينما وجدوا بمعاقبتهم وصولاً إلى تصفيتهم.
استدركت عشائر بعلبك الهرمل على اختلاف أسمائها التحولات منذ الأول، وهي التي تربطها علاقات اجتماعية وسياسية مع العشائر السورية، وأصدرت البيانات المنددة لما صدر عن استهداف للسوريين في لبنان منذ أيام، ووضعت ما يجري على الحدود من اشتباكات ضمن إطار المهربين من الجانبين لا أكثر، وهي تعمل على قطع دابر الفتنة خصوصاً في البلدات الحدودية ذات الجغرافيا المتداخلة والتي يقطنها لبنانيون وسوريون.
أكثر من عملية ضبط لأسلحة مهربة من سوريا إلى لبنان، قامت الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية بتوقيفها، كان آخرها يوم أول من أمس حين أعلنت الإدارة السورية الجديدة عن ضبط شحنة أسلحة متوجهة إلى لبنان عبر بلدة سرغايا بريف دمشق، وهو ما يحتم ويقتضي من الإدارة السورية العمل على مهمة ترسيم الحدود بين البلدين والإسراع بها، خصوصاً أن التنسيق مع الجيش اللبناني على قدم وساق، كان آخره لقاء رئيس هيئة الأركان في الجيش السوري العميد علي النعسان ومدير مكتب التعاون والتنسيق في الجيش اللبناني العميد ميشال بطرس، لوضع آلية ضبط الحدود بين البلدين.