كتبت جومانا زغيب في “نداء الوطن”:
يعود موضوع حياد لبنان في جذوره التاريخية إلى الميثاق الوطني الذي تبلور لأول مرة في نص رسمي، ولو أنه لا يرقى إلى صفة دستورية وقانونية، عندما ورد بشكل غير مباشر في البيان الوزاري لحكومة الاستقلال برئاسة رياض الصلح في مطلع عهد الرئيس بشارة الخوري. ومعلوم أن الرئيسَين الخوري والصلح كانا في أساس اعتماد الميثاق الوطني كسقف مرجعي يسمو على الدستور، ويركز من جهة على الشراكة المسيحية الإسلامية من دون توقف عند الأعداد والأرقام والأحجام، وعلى حياد لبنان وفق مقولة لا شرق ولا غرب من جهة ثانية.
وقد جاء في متن البيان ما يلي بتصرف: “إن الحكومة تحرص على علاقات على أسس متينة تكفل احترام الدول العربية استقلال لبنان وسيادته التامة وسلامة حدوده الحاضرة، فلبنان وطن ذو وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب”. وإذ نوه بالعلاقات الودية مع الدول الغربية الكبرى التي تجاهد من أجل الحرية، لفت إلى أن اللبنانيين لا يريدون لبنان للاستعمار مقرًّا، كما أن العرب لا يريدون لبنان للاستعمار ممرًّا، “فنحن وهم نريده وطنًا عزيزًا مستقلًا سيدًا حرًّا”.
وانطلاقًا من الميثاق الذي تم توثيق جانب منه في الدستور بموجب وثيقة الوفاق الوطني التي أقرت في الطائف، فإن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، وتاليًا إن لبنان لا يمكن إلا أن يكون محايدًا حيال الحروب والصراعات والنزاعات على أشكالها، إلا ما يتعلق منها بقضايا محقة كالقضية الفلسطينية، على أن يكون التضامن مقتصرًا على الموقف السياسي والإنساني بعيدًا من التورط العسكري، وهذا لا يمنع من اعتبار إسرائيل عدوًّا.
ومن هنا، يمكن فهم ما يعتبره دبلوماسي مخضرم فلسفة اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل، والتي نصت في مادتها الأولى على عدم اللجوء إلى القوة العسكرية في تسوية القضية الفلسطينية، وعدم جواز القيام بأي عمل عسكري ضد مواطني الفريق الآخر وقواته المسلحة، واحترام حق كل من الفريقين بأمنه واطمئنانه إلى عدم الهجوم المسلح عليه، وأخيرًا اعتبار الهدنة خطوة لتصفية النزاع المسلح وإعادة السلم إلى فلسطين.
وتكفي هذه النقاط للتأكيد على تحييد لبنان حتى عن خوض أي مواجهة عسكرية مع إسرائيل بأي حجة كانت، فكم بالحري مع دول أخرى شقيقة أو صديقة. ولذلك فإن اتفاقية الهدنة تندرج في إطار تمييز لبنان عن سائر دول الطوق العربي، وتاليًا تكريس حياده ولو بشكل موقت، والموقت غالبًا ما يكون دائمًا في المشرق.
وفي ضوء كل ما تقدم، لا بد من التنبه إلى أن كل كلام على الحياد اليوم لا يأتي من عدم، بل يستند إلى مسوغات ميثاقية وتاريخية وواقعية في آن واحد. ولذلك يصعب فهم الحملات التي استهدفت البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، عندما دعا إلى الحياد الإيجابي الناشط، وكأن دعوته تعني التناغم مع إسرائيل أو معاداة القضية الفلسطينية.
في أي حال، لا بد من التمييز بين الحياد والتحييد، علمًا أن لكل منهما إيجابياته، لكن التحييد قد يكون أقرب إلى التطبيق واقعيًا، باعتبار أن الحياد يحتاج إلى توافق إجماعي وإلى توثيقه وتثبيته محليًا وعلى صعيد القانون الدولي، وما يعني ذلك من اعتراف لسائر الدول به، ولذلك فإن الوصول إليه دونه عقبات كثيرة على صعد عدة. والمثل الأبرز على الحياد هو سويسرا التي حماها حيادها من الحروب على مدى قرون عدة، كما أن السويد حافظت على حيادها ولم تخض أو تتورط في أي حرب منذ العام 1814.
وفي ما خص التحييد، فهو الذي تضمنه إعلان بعبدا في عهد الرئيس ميشال سليمان، وذلك عندما توافق كبار المسؤولين والقادة السياسيين على الإعلان بتاريخ 11 حزيران 2012. والتحييد ليس الحياد، بل إنه في مفهوم القانون الدولي خيار سيادي للدولة في سياستها الخارجية إزاء سياسات المحاور والصراعات الإقليمية، علمًا أنه يحتمل استثناءات.
في الخلاصة، إن خيار التحييد هو أكثر ما يناسب لبنان في ظل المعمعة الحالية، لا سيما من خلال تعويم إعلان بعبدا الذي تم تسجيله كوثيقة رسمية في الأمم المتحدة، يوم كان الرئيس نواف سلام سفيرًا للبنان لدى المنظمة الدولية، علمًا أن مواقف مرحبة به صدرت عن كل من جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي.
على أنه للوصول إلى المبتغى لا بد من معالجة الشرط الأساسي لاكتمال عناصر الدولة في لبنان، وهو امتلاكها الكامل لسيادتها على قرارها وعلى أرضها، وبخاصة من خلال حصرية السلاح، ومن دون هذا الشرط لا ضمانات دولية للبنان ولا مساعدات على أنواعها. أما المساعدة الوحيدة التي يمكن للبنان طلبها، فهي مساعدة المجتمع الدولي على دفع إسرائيل للعودة الكاملة إلى الخط الأزرق، ما يعني إحياء اتفاقية الهدنة عمليًا، وهي في أي حال ما زالت نافذة وتشكل نقطة قوة للبنان حيال الحروب وحيال غياب السلام الكامل.