تجدد الوقائع ذاكرة اللبنانيين كل يوم، وتصنعها، من الصفر. كأنها لم تترك بياض صفحاتها أصلا. تدفن اليوم في أغوارها ما كان يشغلهم بالأمس، ليواجهوا المصيبة الجديدة، كأنها نبتت من العدم، ولا جذور لها في الأيام الغابرة.
لا تخرج عن هذا “السلوك الوطني العام” مطالبة بعض السياسيين، اليوم، بأن يصمت اللبنانيون على تدخل “الحزب المتسلط” في حرب سوريا، وتجاهل إسقاطاته الدموية على الداخل اللبناني. صحيح أن لا أحد يستطيع الجزم أن تدخله لنصرة نظام بشار الأسد هو السبب الوحيد لما آلت إليه الحال في عرسال، لكن لا أحد يجهل أن تعاطي حكومته، برئاسة نجيب ميقاتي، وانعكاسات الأزمة السورية، راوحت بين المؤامرة على لبنان، والاستخفاف بمصيره، من رفض إقامة مراكز إيواء للنازحين عند الحدود، لمنع “انفلاشهم”، إلى طلب مد سلطة القرار الأممي 1701 إلى الحدود مع سوريا، لتجنب امتداد الحرب.
إنه منطق”لا صوت يعلو صوت المعركة”، وهو فُرِض، باستمرار، منذ العام 2005. من التحالف الرباعي في الانتخابات النيابية، إلى قرارات طاولة الحوار الأولى، فـ “حرب تموز”2006 و”اليوم المقيت” في 7 أيار 2008 فـ”اتفاق الدوحة”، والانتخابات النيابية “المحاكة” في ظلاله، إلى إسقاط “حكومة الوحدة الوطنية” التي شكلت في “هدْيه”، في 7 حزيران 2009، ليسقطها بشار الأسد باستقالة وزرائه من الحزب و”حركة أمل” و”التيار الحر” و”الطاشناق” والوزير عدنان السيد حسين، في 12 كانون الثاني 2011.
هذا المنطق سمح للحزب إياه بأن “يوحّد، بسلاحه الاقليمي، لبنان وسوريا والعراق، حين خرق حدود الأولى بحجج متذبذبة بين حماية “شيعة لبنانيين” فـ”المقامات الشيعية” من امتداد”الارهاب السني” فـ”حماية جبهة الممانعة”، التي هي أصل وجوده وتورطه.
“ضمّ” الحزب “الملف اللبناني” إلى الساحة السورية تحت عنوان درء الخطر، وخاض معارك القلمون لإبعاد السيارات المفخخة، فكان أن وجدها في الضاحية، وأصر على مد “وظيفته” إلى الداخل السوري البعيد، فحوّل الضاحية إلى “حصن الموت” على طريقة حسن الصباح. ثم ارغمته وسائل الإعلام على كشف تورطه في العراق، حين عجز عن تورية مقتل أحد قادته في الموصل على رأس قوة من 200 مقاتل.
اليوم، يخوض الجيش معركة ليست مصيرية له، فحسب، بل هي مصيرية للوطن والدولة ووحدة الشعب اللبناني. قبله خاض أكثر من نصف الشعب اللبناني معارك سياسية تنازلت فيها قوى “14 آذار” إلى حدود الصمت من أجل إعادة بناء الدولة، وتماسك الوطن، وبمنطق “لا صوت يعلو…”. لكن الحزب، ولفيفه، كان يتصرف بمنطق أن لا إرادة تعلو على إرادته، ولا أفضلية لدور غير الدور الإقليمي “المكلف به”.
لا بد أن الأصوات ستصمت وراء الجيش في محنة عرسال. لكن من يجزم أن الحزب سيُصمت سلاحه خارج الحدود، وقبلها؟