IMLebanon

الحريريون و«الفخامة»: النُّصرة لـ«المغامرين» أم «الكلاسيكيين»؟

 

وكأنه شيء من الانفصام السياسي يخضع «تيار المستقبل» لعوارضه مذ أن فُتح «البازار الرئاسي» بمنتجاته المارونية:

النواب يُسقطون سمير جعجع في الصندوقة الانتخابية على أنه المرشح الأول، وليس الأخير، إلى حين تغلّب ماروني آخر عليه. في باريس يخلع سعد الحريري الغلال عن قيود الحوار مع الخصم الشرس ميشال عون، من دون أن يعلّقه أو حتى يطلقه، فيبقيه على الحافة بانتظار «إشارة ملكية» تنقذه أو ترميه…

وفي الصالونات البيروتية يحيك بعض «الرؤوس الزرقاء» التوليفات التي تسمح لمن يريدون من الطامحين الموارنة بالتقدّم خطوة إلى الأمام في السباق المخمليّ، وإن غاب فيه المنافسون عن أضواء الحلبة.

وفق التجارب السابقة، التي عادة ما كانت تبدأ بعجقة خطابات وتنتهي بصوت واحد، يتبيّن أنّ هذا المشهد السوريالي، ليس توزيعاً للأدوار بين أهل «البيت الأزرق»، ولا هو ديموقراطية زائدة تتيح التنوع، بقدر ما هو لعب مكشوف في الوقت الضائع.

يدرك هؤلاء أنّ ساعة الرئاسة لم تحن بعد، وأنّ هامش التحرك داخلياً لا يزال واسعاً، وبالإمكان الإستفادة من «الفراغ الإقليمي» لملئه ببعض الحراك، حتى لو انتهى إلى صفر نتيجة.

وهكذا يستمتع «الشيخ المنفي» بفتح «الدفاتر العتيقة» في علاقته الملتبسة مع «البرتقاليين»، بهدف تنقيح صفحة جديدة. يقول بعض عارفيه إنّ الرجل لا يفعلها على مضض، لا بل عن سابق إصرار وتصميم، وبإدراك تام لمفاعيل الانقلاب الممكن أن تحدثه، سواء في منزله ذات البيوت الكثيرة، أو في خندق الخصوم.

يمكن لمجالسيه أن يلاحظوا الفرق الذي تسلل إليه منذ أن وضعت عباءة الزعامة الحريرية على كتفيه، يوم كان كارهاً للسياسة ولناسها وجاهلاً لخزعبلاتها وألاعيبها السوداء والبيضاء، إلى حين «إقالته» وابتعاده طوعاً، واحتباسه في مراجعاته الذاتية لكل التجربة السابقة… حتى عودته من بوابة الرئاسة، محاوراً استيعابياً ومتقبّلاً لكل الأفكار الجديدة، مهما كانت مغامراتية.

هكذا أبدى استعداده أمام ضيوفه العونيين لخرق كل المحرّمات ومناقشة هواجس الفريقين بأعلى درجات الصراحة. على خلاف ما يعتقد كٌثر، فإنّ قنوات الحوار التي انطلقت بين الفريقين، لا تحصر نفسها بالملف الرئاسي. بينهما وضعت رزمة من الأوراق القابلة للأخذ والردّ: سلاح «حزب الله» وكيفية مقاربة «التيار الوطني الحر» له، الرؤية الاقتصادية ـ الاجتماعية، لا سيما وأنّهما يلتقيان حول نقاط مشتركة تخصّ وضع الإدارة العامة ومصيرها والعلاقة مع بعض مكونات المنظومة الاقتصادية، وحتى النظام اللبناني المعتلّ وكيفية تطويره ليكون ضامناً لكل الفئات المكونة.

باعتقاد بعض «المستقبليين» فإنّ العماد ميشال عون جاد في ما يقوم به. فلا هو بوارد تقديم تنازلات كي يكسب الرئاسة، أو على استعداد لمناقشه «سعرها» ليخرج ما في جيبه من أثمان. هو ببساطة يريد أن يتوّج مسيرته السياسية بإنجاز كبير، يتخطى كرسي بعبدا.

ولهذا لم يتردد الشيخ سعد في الاستماع لوجهة النظر العونية، والبحث ملياً في هذا الخيار الذي من شأنه أن يبدّل المشهدية اللبنانية بشكل جذري. وفق عارفيه، فإنّ عقل «البيزنس مان» الذي يسيّره هو الذي ساعده على التفكير على طريقة الأسئلة:

ما هي الموانع من سلوك خيار ميشال عون رئيساً؟ أليس هو السيناريو الوحيد الذي سيكسر توازن الرعب القائم؟ ألن يمدد احتمال الرئيس «الوسطي» الحالة القائمة ويترك النزاع على حافة الهاوية؟ ألن يساهم خيار «رئيس إدارة الأزمة» في مزيد من تفريغ المؤسسات الدستورية؟

يقول سعد الحريري وبشكل صريح إنّه لن يرضى برئيس معرّى مسيحياً. بتعبير آخر يبلغ سائليه إنّه لا يرغب بـ«نجيب ميقاتي ماروني» للرئاسة. يعتقد أن التصويت لمرشح «لا حَوْل ولا قوة له»، سيكبّر فجوة الصراع اللبناني، وسيزيد من حدة الإصطفاف. ولهذا لا بدّ من إيجاد بديل يغيّر قواعد اللعبة. وضع هذه المقاربة بشكل صريح أمام الكاردينال بشارة الراعي، كما أبلغها لأركان قيادته ولحلفائه.

ومع ذلك، يعرف الرجل أنّ دعم «الجنرال المشاغب» لقمة صعبة الهضم على فريقه. هؤلاء لا يترددون في البوح عما في مكنوناتهم من محاذير تجاه القائد السابق للجيش. يقولونها على المنابر وفي جلساتهم المغلقة.

يكاد يكون نادر الحريري وغطاس الخوري الأكثر حماسة للسيناريو الإنقلابي الذي يبشّر به «قائدهما». أما البقية فتغني مواويل أخرى. حتى فؤاد السنيورة يدير أذنه الطرشاء، ويرندح «مقطوعة» جان عبيد. طبعاً، الخلاف شاسع بين تفكير الرقم الأول في تيار «المستقبل» وبين الرقم الثاني.

للأول القدرة على الدخول في متاهة فرضيات جديدة، حتى لو كان فيها الكثير من المخاطرة. فيما الثاني من النوع الكلاسيكي جداً، يتجنّب المعادلات غير المضمونة، ويفضّل ما هو محسوم سلفاً، لا يحبّ «وجع الراس». ولهذا يرتاح لخيار جان عبيد.

حتى نهاد المشنوق قالها بالعلن إنّ وزير الخارجية السابق هو مرشحه المفضل. واقعية وزير الداخلية تدفعه إلى الرهان على «الحصان» الأقل تعرّضاً للفيتوات، طالما أنّ مكونات الطبخة الإقليمية لم تنضج، ليُعرف بملعقة من ستُسكب.

هنا، تصبح الأسماء نوعاً من التفصيل على مائدة «المستقبليين». جان عبيد يكاد يتساوى مثلاً مع رياض سلامة في نسبة «القبول» و«الرضى»، من جانب النواب الحريريين. لكنهم لا يخوضون معركة أحد، ويفضلون موقع المتلقي على المبادر.

في المقابل، لا يستهان بعدد أصحاب السعادة «الزرق» المتحمسين لسمير جعجع فعلاً وليس ورقة، مقابل شريحة لا بأس منها من رافضي هذا الخيار. لكن الحذر من ميشال عون يجمع هؤلاء على نقطة واحدة، باستثناء طبعاً الحريري و«معاونيه». يسألون عن الضمانات التي بإمكان رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» تقديمها. لا يعني أنهم سيقفون بالمرصاد في ما لو صدر «الأمر الملكي»، لكنهم على الأكيد لن يفرشوا له الورود.

بعضهم، كفريد مكاري، يفضّل الخروج عن المألوف. يبحث عن السبيل للتحرر من قيود نبيه بري ووليد جنبلاط. الرجلان مارسا وفق هذا البعض، كل أنواع الاستغلال السياسي لموقعيهما، في الإدارة العامة وفي التركيبة السلطوية. ولا بدّ بنظرهم من «ربيع رئاسي» يطلق سراح «الكتلة الزرقاء»، ويعيد إليها المبادرة. ما قاله نائب رئيس مجلس النواب لم يكن خفياً على الكثير من رفاقه، لا بل جرت مناقشته على المكشوف، وفي أكثر من جلسة.

حتى الآن، «كتلة المستقبل» متفلّتة من عقال وحدة الموقف. لكنها ستعود إلى الصفّ فور نضوج الصفقة، بمعزل عن الماروني الذي سيتحول بين ليلة وضحاها إلى «فخامة الرئيس». ما يحصل بين أعضائها هو بمثابة جلسات تفكير بصوت عالٍ، لن تؤدي بطبيعة الحال إلى أي منحى انشقاقي أو تمرديّ.

ولكن، مهما صال هؤلاء وجالوا في بحر الترشيحات، فالمسألة كما يعرفون، تتخطاهم كما تتخطى «زعيمهم»، الذي قد يكون مؤثراً، إلا أنّه لن يكون طبعاً صاحب القرار، طالما أنّ سلطة الحل والربط لا تزال بيد «كبار اللاعبين».

وبالانتظار، يبدو أن أسهم الحوار الحريري ـ العوني إلى ارتفاع، أقله حتى الأمس القريب، لا سيما وأنّه يحقق تقدماً بالسرعة المطلوبة، بدليل سلّة التعيينات الثقيلة. ومع ذلك لن يجرؤ الشيخ سعد على حمل «صليب» رفض الجنرال، ولن يقولها له بالفم الملآن، في حال بلغ المسعى الحوار حائطاً مسدوداً. بل سيترك للظروف مهمة النطق عنه.