IMLebanon

الرئاسة تليق بك فخامة الرئيس

 

ثمة من ولدوا ليكونوا رؤساء وسطيين: رِجل في البور الإسرائيلي وأخرى في الفلاحة السورية. حصان في الولايات المتحدة، وآخر في روسيا يجران العربة نفسها. يخلط في صحنه الحنيذ السعودي بالفسنجون الإيراني. يصر الرئيس أمين الجميل على القول إن ليس من جرب المجرب، وحده عقله مخرب

 

لا يمكن الرئيس نجيب ميقاتي ألّا ينتخبك يا فخامة الرئيس. يهمس أحد مستشاريه من قناة علاقتهما المالية المشتركة القديمة. ولا يمكن الوزير محمد الصفدي أن يجد أفضل من قامتك لتعليق أحلامه الحكومية عليها، يقول ثان. والنائب ميشال المر؟ «أبو الياس يتوق إلى عودة الرئاسة الأولى إلى جارته بكفيا». ماذا عن النواب الجنبلاطيين؟

لمَ لا؛ لم يسبق لأبو تيمور أن حقق مكاسب في حياته كتلك التي حققها في عهد الجميل الأول. والرئيس نبيه بري؟ النائب غسان مخيبر دائم الحديث يا فخامة الرئيس عن الشيخ زنكي؛ أنت والرئيس نبيه بري دفنتما الرئيس كامل الأسعد ــــ وكان لقبه السري الشيخ زنكي ـــــ معاً. أما فوزه بأصوات نواب القوات، فتحصيل حاصل؛ ألم «يَبرم» جعجع كل هذه «البرمة» ليعود إلى حيث كان قبل ثلاثة عقود؟ بلى طبعاً.
لا بد أن تترشح، ينصح أحد المستشارين. لا يمكن هذه المسيرة الحافلة أن تتوج بغير ترشيح مماثل لا يجد شريكا واحداً من أهل بيته السياسي يوافقه عليه. لعل الخسارة في انتخابات 2007 الفرعية أمام مرشح مغمور جداً لا تكفي للتعبير عن وجهة نظر الرأي العام بهذا البيت السياسي. لا بدّ من إثبات إضافي.
حين يدخل الرئيس أمين الجميل إلى مطعم يقف من فيه احتراماً، يقتربون بلباقة للتسليم عليه. هو يحرص على الظهور بمظهر كاتب الكتب. ينتقي في المقابلات التلفزيونية عباراته بعناية لغوية شديدة. هو ينتمي، في لا وعي المواطنين، إلى نادي رؤساء ما قبل الطائف، يوم كان الرئيس رئيساً حتى لو كان اسمه أمين الجميل. يدفع نفسه بنفسه إلى سباق لا يراهن أحد فيه عليه، لكن ما الذي يضطره إلى هذا الأمر؟ طالما لقب الفخامة يتقدم اسمه، وإنجازاته ما بعدها إنجازات. لعله الإدمان على خدمة الوطن والمواطنين، أو الرغبة في تنشيط لياقة الليرة اللبنانية في القفز العالي، أو إعادة بعث الرئيسين كامل الأسعد وشفيق الوزان.
ليس تفصيلاً ذهاب الجميل إلى معراب لاستئذان جعجع بتجربة حظه مرة. استقبله في الرابية العماد ميشال عون بنفسه بدل ان يكلف النائب السابق كميل الخوري باستقباله، رغم رفض بكفيا استقبال عون غداة اغتيال الوزير بيار الجميل. وسيذهب، لو لزم الأمر، إلى منزل النائب هادي حبيش في القبيات (لا فيلا أدما)، وروبير غانم في البقاع الغربي، وإميل رحمة في الهرمل، مروراً بالنائب سليم كرم في زغرتا. علّ وعسى تتوضح صورته أكثر في أذهان المشككين.
كان الرئيس بشير الجميل لا يزال مسجى في نعشه في كنيسة مار عبدا الصغيرة في بكفيا محاطاً بمحبيه، حين دخل أرييل شارون ومستشاروه صالون بيار الجميل المقنطر والمعتم، ليتولى أحد ضباط الاستخبارات تعريفه على أمين الذي بادر شارون فوراً، قبل «المرحبا»، إلى القول: «لقد أطلعني بشير على كل ما كان يفعل، وعلى علاقته اللصيقة بكم. وسوف أحمل المشعل». لاحقاً، في اجتماع آخر قبيل انتخابه رئيساً للجمهورية اللبنانية، توجه الجميل إلى شارون بالقول: «أعطني منصبك، وخذ منصبي». (بحسب الكاتب ألان مينارغ في كتابه «أسرار حرب لبنان ـــ الجزء الثاني»).
يمكن الاستفادة من خبرة الرئيس الجميل في «ضبضبة» الميليشيات لمعالجة أزمة حزب الله. فقد كان العماد ابراهيم طنوس يروي ضاحكاً عن مسرحية ١٤ شباط ١٩٨٣، حين أتاح الجميل، بالتنسيق مع القوات وقيادة الجيش، تعزيز الأخير لسيادته في المنطقة الشرقية. يومها، تسمّرت الكاميرات أمام بوابة المقر العام للقوات في الكرنتينا تسجل خروج آلاف المسلحين مع عتادهم الخفيف في قوافل في اتجاه بلداتهم، قبل أن يلتفوا عند نهر الموت ويسلكوا طريقاً عسكرياً يعيدهم من حيث أتوا. ولم يلبث أن كرر الفوج الواحد المسرحية أكثر من مرة ليقتنع الرأي العام بأن القوات سرحت مقاتليها. يمكن هذه التجربة أن تكون برنامج فخامته الرئاسي، في ما يخص حزب الله.
في الجزء الثاني من كتابه «أسرار حرب لبنان»، يقتبس مينارغ من تقرير أعده الموساد عن الرئيس اللبناني، الوصف التالي: «هو رجل مزهو جداً، لكنه محدود ثقافياً. فهو على سبيل المثال عاجز فكرياً عن أن يدرك بعقله وضعاً بمجموعه، ولا على القيام باصطناع حيلة في بنية عقلانية. هو يضيع حبل أفكاره بكل يسر». ولطالما أصيب الجميل بنوبة غضب إثر تصحيح أحد مستشاريه فكرته، محاولاً تصحيح ما يحاول رئيسه قوله.
لم يكن لدى الجميل، مع انتهاء عامه الثاني، شيء يقترحه على الأميركيين؛ تردده وعدم تفكيره بغير نفسه استفزا أكثر السياسيين الأميركيين دفاعاً عنه. أما الإسرائيليون، فأرشيف فادي افرام شاهد على مضي «العنيد» بالتلاعب بهم و«استهبالهم»، حتى لحظة ارتمائه في حضن الرئيس السوري حافظ الأسد، عارياً من الشرعية الشعبية. ولعل إنجازه الوحيد كان فعله بالقوات اللبنانية والجيش ما استحال على خصومهما فعله بهما. لم ينهر الجيش فحسب مع الليرة اللبنانية في عهده، إنما ضرب عمود القوات الفقري في الجبل، وسدّ مصادر تمويلها، وكشفها سياسياً وشتت قيادتها، كلما كان فخامته يستدعي قائد القوات فادي افرام إلى قصر بعبدا ليعلمه أن عليهم وضع عواطفهم جانباً، لأن هناك قرارا تاريخيا عليهم اتخاذه، لا يرغب في اتخاذه وحده، كان يحضر فخاً لسلب القوات مزيداً من نفوذها. ولم يكن تسليمه القصر لقائد الجيش العماد ميشال عون في نهاية عهده ناجماً عن الحرص على القصر، بقدر ما كان رغبة في رد صاع جعجع له صاعين. والأكيد، هنا، أن كل ما لحق بالرئاسة الأولى من تشحيل صلاحيات وتقطيع نفوذ يتحمل آخر رؤساء ما قبل الطائف مسؤوليته.
روايات العهد الجميلي كثيرة، أبرزها اثنتان: تقول الأولى إن الرئيس انشغل في الشهر الأول من ولايته باستحداث مسبح في إحدى باحات القصر، الذي نفض اناقته وتحول إلى خربة بعد عامين فقط، يمضي الرئيس الجزء الأكبر من وقته متنقلاً بين القبو إثر تحويله إلى ملجأ فمكتب رئاسي والحمام بدل المسبح. أما الثانية، فتؤكد شراء وريث موريس وبيار ومايا وبشير وبيار مكبرات صوت ضخمة ثبتها في جدران القصر لتصدح بموسيقى بوليرو رافيل، بصوت أعلى من صوت القذائف التي تدك القصر. وبناءً عليه، ماذا يريد الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط أكثر من ذلك: رئيس ينأى بنفسه في قبو ما، رافعاً صوت الموسيقى فوق أصوات القذائف، لا يملك حاشية أو حتى بضعة أصدقاء ليأخذ من درب بري وجنبلاط خدمة هنا ووظيفة هناك.