IMLebanon

«داعش» والصحاف والديموقراطية…

يُروى أن أحد قادة الميليشيات اللبنانية زمن الحرب، حوصر مرة في إحدى البلدات الجبلية لفترة طويلة، إثر معركة عنيفة مع فريق مذهبي خصم في المنطقة نفسها. ولأن أيام الحصار طالت، تحولت حالة البلدة إلى ما يشبه التكيف معه، أو حتى التطبيع. تماماً كما هي قدرة اللبنانيين على التكيف مع أي شيء، مع كل شيء. صار الحصار طبيعة ثانية، أو شكلاً جديداً من أشكال الحياة الطبيعية لأهل البلدة كما للمحاصرين فيها.

ذات يوم، كان القائد العسكري جالساً مع رفيق له من أهل البلدة، في مكان مقابل للبلدات «العدوة»، ذات الطبيعة المذهبية المغايرة، التي ينتشر فيها المسلحون المحاصِرون. فسأل المسؤول رفيقه عن أحوال تلك القرى المجاورة وأوضاع أهلها في زمن ما قبل الحرب. راح يتوسع في الاستفسار: كيف يعيشون. مستوى عائلاتهم الاجتماعي والثقافي. عاداتهم وتقاليدهم. سلوكياتهم الخاصة والعامة… إلى أن توقف المسؤول عن طرح أسئلته، والتفت إلى رفيقه وقال له: أي إنهم مثلكم إلى حد كبير. أو حتى مثلنا كلنا في مختلف قرانا وبلداتنا. فلماذا نتقاتل نحن وإياهم إذن؟

طبعاً لم يكف الاستنتاج لوقف المعركة يومها، ولا في أي يوم لاحق. لمجرد أن القانون الأول والمؤسس لأي حرب أهلية، هو إلغاء العقل، وتفلت الجنون. بعدها تصير أي محاولة للتعقل، ضرباً من ضروب الخيانة أو العمالة أو التخاذل في أقل تقدير.

الصورة نفسها تراءت لكثيرين أمس بالذات. كان أحد القادة العسكريين العراقيين يتحدث في مؤتمر صحافي عن التطورات الميدانية في المناطق التي سيطرت عليها «داعش» أو تقدمت صوبها. قال الضابط الكبير بلهجة ملؤها الثقة بنفسه وبجيشه ودولته، إن سلطات نظامه بدأت تستعيد المبادرة في ساحة المعركة، وإنها تستعد لقلب الموازين فيها. وتدليلاً على ذلك، كشف الضابط المدجج بالأوسمة والميداليات، أن معلومات موثوقة وصلت إلى قيادته، تؤكد أن مقاتلي «داعش» بدأوا يلجأون إلى التنكر بزي نساء، تمهيداً لهربهم متخفين بعد هزيمتهم، من المناطق التي يستعد الجيش العراقي للهجوم عليها وتحريرها! فجأة تقفز إلى ذهنك صورة محمد سعيد الصحاف. بنبرته ولكنته عبسته وبسمته وصبغته، وهو يجزم بأن «العلوج» لم يتخطوا أحد أرصفة ميناء أم قصر في أقصى جنوب البلاد، قبل دقائق قليلة من هربه وسقوط عاصمته ونظامه. ليس الوضع العسكري وموازين القوى وتوقع النتائج الميدانية ما هو في ميزان المقارنة هنا، بل هو نظام عقلي كامل في التفكير والتعبير والتدبير. أحد عشر عاماً مضت على احتلال العراق، أكثر من نصف مليون ضحية، أكثر من مليوني مهجر خارج بلده، مئات المليارات، بل آلافها من الخسائر المحققة، فضلاً عن الناتج الوطني العراقي الضائع… لتعود الأمور فتنتج هجوماً باسم «داعش» من هنا، ودفاعاً بأسلوب الصحاف من هناك. في مكان ما من عمق تحليل الشخصيات الجماعية وتوصيف الوجدانات والذاكرات والمتخيلات وفهم سلوكيات الناس، كأنهم متطابقون. كأنهم استنساخات بأسماء مختلفة. كذبة هي خبرية التنوع والتعدد. البيئة الريفية نفسها، المجتمع الزراعي بمفاهميه الثقافية ذاته، العقل الديني الدوغماتي المتكلس والمُلغي للعقل وللآخر ولكل ما هو اليوم والغد، هو هو في الجهتين ولدى كل طرف… التطابق في العنف واستسهال الدم وتوسل القتل وابتذال الحياة بمسميات تسويغية مختلفة، كل تفصيل كوارثي موجود لدى الجميع، فعلى ماذا يتقاتلون؟!

سؤال لا جواب له ولا قدرة على إدراكه والرد عليه إلا بشكل عكسي. إلا بمقولة مايكل دويل الشهيرة، من أن «وحدها الديمقراطيات لا تتقاتل». ولسوء حظ أعداء النظرية الديمقراطية، فالتاريخ المعاصر أثبت مقولة دويل. حتى الديمقراطيات «الخبيثة» عجزت عن التقاتل في ما بينها. فما من حرب واحدة وقعت إلا اقتضت أن يكون أحد أطرافها على الأقل، نظاماً غير ديمقراطي. أكان دولة أم تنظيماً دون الدولة أو فوقها. يبقى السؤال: لكن ما هي الديمقراطية؟ تلك الإشكالية المشابهة في الحياة السياسية والعامة، لإشكالية بيلاطس على المستوى الديني والفلسفي، «ولكن ما هي الحقيقة؟!». أحد الفلاسفة السياسيين استظرف مرة بأن اختصر الديمقراطية بمكعبين اثنين: صندوق الاقتراع وكشك بائع الصحف، تدليلاً على عاملين مؤسسين للديمقراطية بحسب رأيه، أي انبثاق السلطة من الشعب، والحريات العامة. هل يكفي هذا التعريف؟ هل يقنع «داعش» ومستنسَخي الصحاف في كل أرض وعهد وزمن ووطن؟ وإذا كانت هذه الوصفة السحرية قابلة للتعميم على كل أنظمة كوكبنا، فلماذا يبدو تاريخ منطقتنا دائراً أبداً في حلقة جهنمية من العنف والقتل والدم والعبث؟ لماذا الديمقراطية، أي ديمقراطية، حتى الخاصة بنا والمتكيفة مع ذهنياتنا، محظورة ممنوعة عاجزة ملغاة عندنا منذ قرون وإلى قرون؟ الاستعمار هو السبب؟ الوقت غير الكافي؟ إسرائيل؟ سحر الشرق؟ أم شيء آخر في عقلنا وفكرنا؟ سؤال مركزي يهرب منه الجميع، ونظل نكرر في غيابه رقصات جنوننا والموت المستدام.