IMLebanon

كلام في السياسة | الرئيس والتعيس …

ليست الرئاسة في أزمة في لبنان اليوم. بل مكوناته الثلاثة مأزومة: الدولة والجماعة والفرد المواطن الإنسان. الدولة مأزومة أولاً، في المفهومين المؤسسين لها كدولة. أي في سيادتها وفي وظيفتها. سيادتنا في أزمة، بدليل موقع لبنان الجيوبوليتيكي. بين دولة لا نعترف بها وأخرى لا ندرك طبيعة اعترافها بنا.

قبل أن تتشظّى الاثنتان حروباً مستدامة، فتشظيان دولة لبنان نفسها، كجغرافيا وديمغرافيا وأكثر. أما كيف وظيفة الدولة عندنا في أزمة؟ تكفي تلك المفارقة في أن يكون القضاء والقوى الشرعية المسلحة مسألتين متناقضتين بين الدستور وبين القانون، وبين الاثنين وبين الممارسة. لا لشيء، إلا كدليل على أزمة العدالة والأمن، كتعبيرين مؤسسين للدولة ووظيفتها.

ثانياً، الجماعات ــــ أو الطوائف ـــــ مأزومة في لبنان. وأزماتها متعددة متشعبة. مأزومة هي في نظرتها إلى ذاتها، وفي علاقتها ببعضها، وفي معادلة توازنها مع النظام في بعديه الداخلي والخارجي. أزمة يختصرها هذا القلق الدائم وهذا التطلع الأبدي إلى تسويات مفتوحة أبداً على عدم الاستقرار.

أما المواطن الإنسان الفرد في لبنان، فمأزوم في كل شيء، من خبزه إلى كرامته.

أي رئيس لهذا اللبنان المأزوم في كل مكوناته؟ سؤال يحتمل جوابين: هناك رئيس متوقع اليوم، في ظل الظروف وموازين القوى المعروفة. وهناك رئيس مرتجى كل يوم، أياً كانت تلك الظروف والموازين.

الرئيس المتوقع، والذي يتم البحث عنه الآن وتكييفه وتعليبه، هو رئيس يتعايش مع أزماتنا الثلاث. رئيس يؤمّن ويلتزم موازين المعادلة الثلاثية: الأميركية ــــ السعودية ــــ الإيرانية. فيشكل تقاطعاً بين واشنطن والرياض وطهران. حتى إذا انتفى التقاطع يكون الفراغ رئيساً. رئيس يكيّف موقفه من أحداث سوريا وفق تكيف المعادلة الثلاثية معها. ويتعامل مع «مسألة اسرائيل» وفق مصالح الثلاثة معاً. فيعطي، مثلاً، الغاز لواشنطن، ويضمن للرياض عدم «الحرتقة» على مسار التسوية المنطلق من مبادرة بيروت والواصل إلى قرار تبادل الأراضي والمبادئ والحقوق… تماماً كما يؤمن لطهران الموافقة الصامتة على أن «سلاح حزب الله مسألة إقليمية».

ثم المتوقع رئيس يتعايش مع أزمات طوائفنا القبائل العشائر. على طريقة تكاذبها وتخدير هباتها العنفوانية الموسمية من قرون وسطى. فيؤمن لها سلسلة هدنات في أزماتها مع نفسها ومع الآخر ومع النظام. رئيس يوحي للزعامة السنية السياسية الأكثرية، بالمحافظة على مكتسبات نظام الطائف، وفق صيغة تطبيقه السورية العنجرية. أي وهم حفظ أرجحية موقع رئاسة الحكومة على باقي مؤسسات البلد، والالتزام بالخيار الاقتصادي الاجتماعي، والمالي النقدي، الذي اعتمد منذ عقدين. ويعطي الزعامة الشيعية الأكثرية، وهم حفظ سلاح المقاومة. كما وهم ضمان الحصة الإضافية التي اقتطعها بعضهم من النظام ومن سياسات النفوذ داخله، بواسطة وهج سلاح المقاومة وعلى حساب طهارتها ونقاء نضالها وقدسية شهدائها، تعويضاً عما يعتبره بعض قيادات الطائفة، انتقاصاً من حجمها ودورها في نصوص النظام وموازينه الحَرفية.

ورئيس يعطي المسيحيين كل الأوهام التي يريدون وعكسها. ففي وجدان هؤلاء المملوء عقداً ومركّبات نقص وعجزاً عن فهم المتغيرات وإدراك نتائجها، يريد المسيحيون اليوم رئيساً يعيدهم إلى الجمهورية الأولى، ورئيساً يضمن لهم عدم زوالهم تحت ضربات التطرف والتكفير أو الضمور والتقلص. يريدون رئيساً يؤمن استعادة الدور وحفظ الوجود. ولم ينتبهوا أنه لو كان المسيحيون يستحقون الدور الذي يطالبون به، لما كانوا في حالة الخوف على وجودهم حتى مطالبة الآخرين بضمانه لهم. ولو لم يكونوا قد فقدوا مقوماتهم الذاتية للوجود، لكانت استعادتهم لدورهم أمراً تلقائياً، بلا مطالبات ولا ضمانات.

أخيراً رئيس يعطي زعامة الدروز الأكثرية السياسية، الوهم نفسه الذي يريده الموارنة، إنما بشكل معكوس. فإذا كان المسيحيون يريدون استعادة دور فقدوه خلال عقدين نتيجة أخطائهم الذاتية وارتكابات الآخرين الموضوعية، فالدروز يريدون ضمان بقاء الدور الذي اكتسبوه في الفترة نفسها، لكن بفضل عوامل خارجية وداخلية تغيرت وتبدلت. فضلاً عن أوهام «أمن الجماعة ووجودها الكياني وخصوصيته» على مستوى كل النظام، مما يشترك فيه الدروز مع المسيحيين، كآخر الهنود الحمر كما سماهم يوماً وليد جنبلاط.

المتوقع إذن رئيس لا يحل أزمات الجماعات، بل يوحي وكأنه يفهمها ويتفهمها. رئيس يجيد كذبة ما يسمى هواجس الطوائف، والتي ليست غير حصص المناصب. رئيس يقول انه يضمن حقوق الجماعات. فيما هو يؤمّن فعلاً مصالح الزعامات. رئيس يحترف تعطير جثة نظام ميت في دارنا منذ عقود، ولا من يجرؤ على إعلان الوفاة، فكيف بإذاعة ترتيبات الدفن؟! المتوقع رئيس يوحي للسنة ببقاء الأرجحية، وللشيعة بحفظ المقاومة وملحقاتها، وللمسيحيين باستعادة الدور وحفظ الوجود، وللدروز باستدامة الدور وتحنيط الوجود. كيف يمكن ضمان كل هذه التناقضات معاً؟ إنه مجال العبقرية اللبنانية، إما في تكييف النفاق رئيساً، وإما في قبول الفراغ رئيساً بديلاً.

هذا هو الرئيس المتوقع. يبقى الرئيس المرتجى، هو من يجيب عن أزمة الفرد المواطن الإنسان عندنا. رئيس يلتزم، ويحقق مقتضيات إنسانية ومواطنية وحتى فردانية هذا البعد من أزمتنا. ولو بقدر ما يعطيه دستور الطائف من صلاحيات لذلك. أقله أن يكون رئيساً محرضاً في هذا الاتجاه. رئيساً رمزاً لهذا المسار. ألا يقول عنه الدستور أنه «رمز»؟

المرتجى رئيس يلتزم، مثلاً، إقرار قانون مدني موحد وإلزامي للأحوال الشخصية. وإلغاء كل اشكال التمييز الجندري ضد المرأة في قوانين الدولة. لا كمؤشر معاصرة غربية عرضية سطحية «موندانية صالوناتية». بل لأن المرأة والمرأة وحدها مفتاح أي تغيير جدي جذري في بنية عقل هذا العالم الشرقي الظلامي البائس. رئيس قادر على أمر كهذا، أعظم بمليون مرة من رئيس يشكل نقطة تقاطع فراغي بين واشنطن والرياض وطهران وكل عواصم الأرض. لأنه لم يعد ممكناً التعايش ولا العيش في ظل معادلات أزمات الطوائف في لبنان أو أزمات الخارج داخله. ولا قدرة إطلاقاً لنا لتغيير الجغرافيا لحل ازمة السيادة، ولا لثورات كالفنية بين اليوم والغد لتثوير مؤسساتنا الدينية العقيمة المتكلسة. لم يبق لنا إلا الفرد المواطن الإنسان. لم يبق لنا إلا حرية الضمير في قانون الأحوال الشخصية، ولم يبق لنا إلا المرأة كمصدر وحيد لكل ما هو حق وخير وجمال. ولم يبق لنا إلا العامل في قدسية خبزه وكرامته. لن نغير سوريا ولا اسرائيل غداً. ولا حيوات لنا كافية لننتظر نتائج حروب الآلهة المتفرعة كل يوم أنصاف آلهة وأشباهاً. هل يكون رئيسٌ كهذا ممكناً اليوم؟ من الصعب الجواب، لكن المؤكد أن هذا هو الرئيس، وكل ما تبقى مجرد تعيس.