IMLebanon

كلام في السياسة | فجور دبلوماسي في صرح كنسي

كان أحد المسؤولين الكنسيين يقلّب ورقتين اثنتين بين يديه، وهو يحادث ضيفه كمن يفكّر بصوت عال. يرفع الورقة الأولى أمام عينيه، وفيها مبادرة ميشال عون الأخيرة، يتطلع فيها ثواني، ثم يقول بصوت عال: أي قانون انتخاب يريدون من المسيحيين أن يطرحوا وأن يقبلوا وأن يتبنّوا هذه الأيام؟

يريدون منهم أن يطالبوا بإلغاء الطائفية السياسية فوراً، فيما «داعش» باتت في قلب بيروت؟ يريدون من المسيحيين أن يتنازلوا عن حقوقهم الميثاقية والدستورية في اختيار نوابهم، وأن يعطوا الآخرين سلطة اختيار ممثليهم نيابة عنهم، فيما الفكر التكفيري لم يعد مكتوباً بالحبر، بل بالدماء البريئة في كل منطقتنا؟ صحيح أن اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، لا يزالون يملكون من حقيقة العيش معاً ما هو أقوى من كل المؤامرات. وصحيح أن المسؤولية لا تقع على أي مواطن مسلم من أي مذهب كان. لكن المسؤولية ملقاة على عاتق السياسيين. وهي مسؤولية تكاد تكون اتهاماً صريحاً هذه الأيام. قبل نحو ثماني سنوات، قام أحد السفهاء الدانماركيين برسم كاريكاتور سخيف تناول المقدسات الإسلامية. قصاصة ورقة مدانة أشد الإدانة. لكن لم يعرف بها أحد في لبنان ولم يطلع عليها أحد. وعند إثارتها رفضها كل المسيحيين قبل المسلمين. لكن مع ذلك قامت قيامة إحدى الجهات الإسلامية، ونظمت زحفاً من الشمال إلى بيروت. زحف كاد يتحول عملية غزو جاهلية طالبانية تمحو مقدسات المسيحيين في الأشرفية وتشعل حرباً أهلية. يومها خرج مجلس الأمن الدولي ببيان، وتحدثت حكومة فؤاد السنيورة عن مؤامرة سورية. حتى أن أحد الموتورين اتهم زعيماً مارونياً بأنه وراء الغزوة. ومع ذلك وقف كل لبنان يومها، بكل مسيحييه قبل مسلميه، ضد إهانة المقدسات الإسلامية، ولو في رسم لم يبق منه أثر، ولو في مكان قرب القطب الشمالي من هذه الأرض…

لا أحد ممن تهافتوا

على إدانة مبادرة عون قال حرفاً واحداً في رفض ما قامت به «داعش» ضد المسيحيين

يعيد المسؤول الكنسي التطلع في مبادرة عون، قبل أن يتابع: في المقابل يستكبرون على المسيحيين أن يطالبوا بانتخاب نوابهم، وها هي كنائس الموصل تحرق وتخرب وتهدم؟! الموصل هنا، عند اللاحدود الداعشية بيننا وبين العراق، فيما لم نسمع موقفاً واحداً مديناً. منذ غزو «داعش» لغرب العراق وأنا أطالع الصحف يومياً. أفتش بين صفحاتها وعواميدها. أدقّق في العناوين والسطور وما بينها، حتى في الإعلانات والوفيات. أبحث عن تصريح واحد لمسؤول أو سياسي من الجماعة الشريكة لنا في الوطن، والمعنية بمذهب «داعش»، يدين ما حصل هناك. لا رئيس حكومة حالي، ولا سابق. لا وزير ولا نائب من أي عهد. لا رجل دين ولا رجل سياسة، من كل الذين تهافتوا على إدانة مبادرة ميشال عون، قال حرفاً واحداً في رفض ما قامت به «داعش» ضد المسيحيين وضد مقدسات المسيحيين وضد كنائس المسيحيين. لم يرفضوا حتى أن يكون لبنان ضمن «خلافة داعش» وضمن النطاق الجغرافي لاسمها حتى. ويريدون للمسيحيين ألا يطالبوا بانتخابهم نوابهم؟!

ثم، يتابع المسؤول الكنسي وهو ينبش الورقة الثانية من تحت يديه كمن يحمل كنزاً وعبئاً، ثم يستكثرون علينا أن ننتخب رئيس جمهوريتنا مباشرة من الناس؟ ألم يسمعوا قبل أسابيع كيف وقف وزير خارجية إحدى المملكات النفطية، يفرض شروطه وقيوده وحدوده على أي رئيس يقبل به للبنان؟! تلتمع عينا المسؤول الكنسي ويصير صوته أكثر ثقلاً وهيبة، قبل أن يكشف: لم يكن الأمر مجرد كلام صحف. فبعد أيام قليلة على كلام ذلك الوزير، بادر مسؤول كنسي كبير إلى طلب مقابلة سفير تلك المملكة. جاء ممثل تلك العائلة الحاكمة إليه، وقال ما هو أكثر وأكبر وأسوأ. ها هو محضر اللقاء بين الرجلين، ها هي نيات الوصاية علينا والهيمنة على بلدنا وشراء كراماتنا وحقوقنا وثرواتنا وبلادنا. ينظر المسؤول الكنسي إلى الورقة ــــ المحضر، ويقرأ بتمعن وبطء: بدأ اللقاء بسؤال من السفير: ما رأيكم بالتمديد لميشال سليمان؟ أجاب غبطته: هذه مسألة مؤذية بالمطلق لموقع الرئاسة وهيبتها. الأفضل أن يكون هناك رئيس جديد قوي ضمن المهلة الدستورية. سارع السفير إلى مقاطعة غبطته: ما قصة هذه اللازمة المستجدة حول الرئيس القوي؟ ثم ما مفهومكم للرئيس القوي؟ نحن نرى في هذا التعبير انقلاباً على الطائف. وهو ما لا نرضى به ولن نسمح بحصوله. الطائف كلف دماً ودموعاً وسنحافظ عليه. يرفع المسؤول الكنسي عينيه عن الورقة المحضر معلقاً: الطائف كلفهم دماً ودموعاً؟! أي تزوير للتاريخ هذا الكلام. فالدم الوحيد الذي أراقه الطائف كان دم الجيش اللبناني والمسيحيين، يوم اتفق سمير جعجع وغازي كنعان على غزو كل لبنان…

يعود المسؤول الكنسي إلى قراءة محضر اجتماع ممثل العائلة النفطية في بيروت مع المرجعية الكنسية: هنا سأل غبطته السفير: إذا كان هذا موقفكم من الرئيس القوي، فما الداعي إلى الحوارات التي تُجرى مع ميشال عون وما هي أفقها وجدواها؟ يبتسم السفير مجيباً: هذا تفاوض شكلي وسطحي. لكنه لن يبلغ أبداً صلب ما نريده من الرئيس المقبل. ثمة مسائل يجب أن تكون محسومة في شخص الرئيس المقبل وسلوكه. أبرزها مثلاً: أولاً، كيف سيتعاطى مع المواقع الدستورية الأخرى وتحديداً مع رئيس الحكومة الذي هو رئيس مجلس الوزراء. ثانياً، أي قانون انتخاب يريد. فكل ما هو مغاير لجوهر الطائف كما نفهمه مرفوض. ثالثاً، ما هو موقفه من سلاح حزب الله ومن دوره. هذا أمر لا يمكن التساهل فيه. رابعاً، موقفه من بشار الأسد. المطلوب رئيس ينسجم مع موقفنا من نظام الأسد، الذي هو موقف المجتمع الدولي أصلاً. خامساً، موقفه من المحكمة الدولية. ميشال عون قال لسعد الحريري كلاماً عمومياً عن أن المحكمة باتت قائمة ونافذة. هذا كلام. المطلوب رئيس يجعل كل قدرات الدولة في خدمة المحكمة. وسادساً، المطلوب رئيس يدرك أين سيكون القرار المالي والاقتصادي في البلد ويسلم بذلك… هذه عينة من الأمور المطلوب توضيحها، وهذا ما أوضحه أصلاً وزير خارجيتنا للمعنيين.

يختم المسؤول الكنسي قراءة الوثيقة المحضر، يرميها على طاولته قبل أن يقول بصوت ثائر: يريدون فرض كل هذا علينا وعلى نوابنا وعلى رئيسنا وعلى جمهوريتنا، ويستفظعون أن يطالب الزعيم المسيحي الأول بانتخاب الرئيس من الشعب؟! هذا … تعلق الكلمة التوصيف في فم المسؤول الكنسي. فهي معدومة في قاموسه وخطابه ولسانه. وإن كانت سائدة متسيدة في البلد. أنه الفجور بالذات.