IMLebanon

كولومبوس اكتشف أميركا.. أوباما يمحوها!

لم يكن المقام مناسبا للكلام عندما اختار باراك أوباما أن يعلن ما يشبه استقالة أميركا من مسرح الأحداث الساخنة في العالم، من المكان الذي لطالما شكل في نظر كثيرين رمزا للقوة العسكرية، وهكذا وقف قبل أيام في أكاديمية «وست بوينت» ليقول للعسكريين إنه سيخونهم إذا أرسلهم إلى مناطق الخطر لمجرد أن يرى مشكلة تحتاج إلى إصلاح في مكان ما من العالم.

هكذا بالحرف «سيخونهم». لكن هذا الكلام شكل بالنسبة إلى كثيرين في الكونغرس، كما في دول أخرى، خيانة لأميركا ودورها المعروف منذ الحرب العالمية الثانية، الذي جعل منها مرجعية أحادية، خصوصا بعد انهيار نظرية «الاستقطاب الثنائي» مع تفكك الاتحاد السوفياتي التي يحاول فلاديمير بوتين إحياءها!

دأب جون ماكين على وصف سياسة أوباما بالتردد والضعف، ولطالما قال متهكما إنه يكتب مواقفه بالحبر الممحو، ولم يتردد أخيرا في اتهامه بالسذاجة انطلاقا من مواقفه حيال مجموعة من الأزمات والقضايا التي لم تكن لتتفجر على هذا النحو الكارثي، لو كانت واشنطن تطبق سياسة خارجية حازمة وواضحة، وبالتحديد في سوريا، وأوكرانيا، وفلسطين، ومصر، وليبيا، ومناطق أخرى.

كلام أوباما عن «زيادة الدعم للمعارضة السورية التي تستطيع أن تقدم بديلا أفضل عن الإرهابيين والديكتاتور الوحشي الذي يقصف شعبه ويجوعه»، ليس أكثر من حفنة جديدة من الترهات التي لن تترجم ميدانيا، والدليل أنه يعد «الأمر محبطا، فليس هناك من جواب سهل ولا حل عسكري يمكن أن يوقف المعاناة!».

ولأنه يرى أنه ليس على أميركا أن تعتمد على قوتها العسكرية في الشؤون الدولية، وأن «هذه الاستراتيجية ساذجة وغير مستدامة»، يصبح مفهوما: لماذا لم ينجح منذ دخوله إلى البيت الأبيض في شيء، غير استعجال الانسحاب؛ من العراق الذي قدمه إلى الإيرانيين على طبق من فضة، وأفغانستان التي سيقدمها على ما يبدو إلى حركة طالبان.

وإذا كان أوباما قد انخرط في مفاوضات سرية مع الإيرانيين (أعداء الأمس)، وراء أبواب عمانية مغلقة، كما تبين بعد انفتاحه المتهافت على مصالحة حسن روحاني، فإنه انخرط أيضا في مفاوضات سرية مع حركة طالبان لمدة عامين عبر وساطة قطرية، أدت إلى صفقة إفراج حركة طالبان عن الجندي الأميركي بو بيرغدال، في مقابل إفراج واشنطن عن خمسة من كبار أركان القادة في الإمارة الإسلامية.

أوباما أعلن الصفقة بلهجة المنتصر، لكن المنتصر الفعلي كان الملا عمر، الذي لم يتوانَ عن إصدار بيان تحدث فيه عن النصر الكبير المتمثل في إطلاق خمسة من كبار قادته من معتقلي غوانتانامو، والدليل أن وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل، الذي كان في أفغانستان، يقول إن واشنطن تأمل في أن تؤدي الصفقة إلى تحقيق انفراجة مع طالبان تفضي إلى مفاوضات مباشرة، ولكأن أوباما، الذي سينهي الانسحاب من أفغانستان سنة 2016، مستميت للجلوس مع الملا عمر!

السيناتور مايك روجرز يرى أن الصفقة سابقة ستحفز على خطف الجنود الأميركيين، أما جون ماكين فوصف المعتقلين الذين أفرجت عنهم واشنطن، ووصلوا الأحد الماضي إلى الدوحة، بأنهم من «كبار الإرهابيين الخطيرين»، وطالب بضرورة اتخاذ إجراءات احترازية لمنعهم من العودة إلى ممارسة نشاطهم ضد الولايات المتحدة، وكان من المثير أن يرد أوباما على هذه المخاوف بالقول إن «الحكومة القطرية أعطتنا ضمانات بأنها ستتخذ إجراءات لحماية أمننا القومي»، وهو ما دفع البعض إلى التساؤل: هل هذه هي أميركا فعلا؟ وهل باتت أميركا تحتاج إلى قطر لضمان أمنها القومي؟!

عشية الإعلان عن الصفقة نشرت صحيفة «فايننشيال تايمز» تقريرا عن التراجع في سياسة أميركا الخارجية، وعن المشكلات التي تواجهها، ورأت أن اتهام أوباما بالتردد والتخاذل لم يعد مقتصرا على خصومه الجمهوريين، بل على شرائح في الحزب الديمقراطي، إضافة طبعا إلى حلفاء أميركا، مثل دول الخليج، واليابان، وكوريا الجنوبية، وغيرها.

ولعل هذا ما دفع جون كيري وزير الخارجية، الذي لم يحصد سوى الفشل من فلسطين إلى أوكرانيا، مرورا بسوريا وأماكن كثيرة، إلى القول للصحيفة المذكورة: «إنني أعترف أن واشنطن ينبغي ألا تنتقل من سياسة التدخل المفرط التي انتهجتها في العقد الماضي إلى الانعزال المفرط».

آخر استطلاع للرأي أجراه «معهد بيو» الأميركي قبل شهرين كشف أن 53 في المائة من الأميركيين يرون أن بلادهم تفقد نفوذها في العالم، وأن 70 في المائة رأوا أنها تفقد احترامها لدى الدول الأخرى، وقد علق أحد الظرفاء على هذا بالقول: «كريستوف كولومبس اكتشف أميركا، وباراك أوباما يمحوها عن الخريطة»!