IMLebanon

لبنان بلا جامعة وشهادات!

يخشى أن يدخل لبنان، مطلع الأسبوع المقبل، في أزمة تتجاوز في أهميتها الفراغ الرئاسي، والنزاع بين التيارات السياسية حول كيفية ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية التي ورثها مجلس الوزراء لتصيب، هذه المرة، حياة الناس في صميم يومياتهم، وتطال فلذات أكبادهم.

«هيئة التنسيق النقابية» التي تهدد بإضراب شامل يشل القطاع العام ويجمد الامتحانات الرسمية للشهادتين التكميلية والثانوية، في حال لم يتم التوصل إلى إقرار سلسلة الرتب والرواتب، ليست وحدها التي تهدر سخطا. «الجامعة اللبنانية» هي أيضا في إضراب، عمليا، منذ ما يقارب الأسبوع، وأساتذتها المتعاقدون يعتصمون ويرفضون إجراء الامتحانات قبل تفريغهم.

الاحتجاجات المطلبية تشل القطاع التعليمي في مراحله كافة. أكثر من 175 ألف طالب في المدارس والجامعة الوطنية لا يعرفون لغاية اللحظة مصير امتحاناتهم، التي يفترض أن تبدأ بعد أيام قليلة، وما ستؤول إليه سنتهم الدراسية. لم يسبق للبنان، ما بعد الحرب الأهلية اللعينة، أن عاش مشهدا احتجاجيا اجتماعيا على هذا القدر من التشنج، يهدد جديا بتوقف النبض في كل مؤسسات الدولة، تزامنا مع موعد الامتحانات.

ثمة إحساس بأن الكيل قد طفح. بالغت الدولة كثيرا في إهمال مؤسساتها والعاملين فيها، تصرفت الحكومات المتعاقبة، طويلا، على أن الطبقة الوسطى هي وحدها التي يفترض أن تسدد فواتير الدين العام وملياراته المختلسة، كي يتمكن الموسرون من مراكمة ثرواتهم ونفخ استثماراتهم. ابتكر عباقرة السياسات الاقتصادية بدعة التعاقد بدل التوظيف، لتطبيق التقشف على فئة بعينها، فضربوا القطاع العام، وأصابوا الصرح التعليمي الوطني الأكبر، أي «الجامعة اللبنانية»، في مقتل. ثلاث سنوات ومعلمو المدارس، كما موظفي الدولة، يطالبون بتصحيح أوضاعهم البائسة. ست سنوات وأساتذة «الجامعة اللبنانية» يذكرون بأن التعليم بالساعة لا يمكن أن يستمر مدى الحياة لدكاترة أفنوا أعمارهم في التحصيل، ولا من مجيب. لا يكفي أن يصر وزير التربية إلياس بوصعب على إجراء امتحانات الشهادات الرسمية، بصرف النظر عن رضا المعلمين، كي يهدئ روع التلامذة. يخشى أن تتسبب الامتحانات التي ستجرى بشكل «غير مسبوق»، كما وصفها وزير التربية، بردود فعل «غير مسبوقة» هي الأخرى. هناك إحساس بالتحدي عند المعلمين، وخوف عند الأهالي، من صيغ لإجراء الامتحانات تحاط بسرية، ومن تهديد هيئة التنسيق بأنها لن تسمح بهكذا خطوات، مهما كلف الأمر.

وصل العجز السياسي إلى حد الاختلاف، بين زعماء الطوائف، على تصحيح الأجور، حتى لو كلف الأمر تضييع العام الدراسي على الطلاب، رغم أن سلسلة الرتب والرواتب درست ونوقشت، وقيل فيها ما لم يقله مالك في الخمرة. أما ملف تفرغ الأساتذة الجامعيين، فبقي يرحل من حكومة إلى أخرى، بسبب تضارب المصالح، وإخلاصا لمبدأ الكيدية السياسية، إلى أن وصلت المؤسسة الوطنية الكبرى في لبنان، بعد مؤسسة الجيش، إلى حائط مسدود. لم تلتفت الأطراف السياسية التي عرقلت الملف، عمدا، إلى أن الجامعة أفرغت من هيئة تعليمية تسير شؤونها، مع ما يقارب ألف أستاذ متفرغ فقط، مقابل أربعة آلاف متعاقد في الساعة. حقا إنها لمهزلة! ولا يزال هناك من يعتبر أن الموضوع يحتاج إلى دراسة متأنية، وغيرهم ينادون بعدم التسرع. هل المطلوب أن تصل الجامعة الوحيدة في لبنان، التي تؤمن التعليم بالمجان، إلى صفر أستاذ كي تستحق عنايتكم؟ مع علم الجميع أن الجامعة اللبنانية وحدها تضم وتخرج طلابا يفوق عددهم ما تخرجه 47 جامعة خاصة مجتمعة، نمت كالطفيليات، ووزعت تراخيصها بين أصحاب النفوذ والوجاهة. هناك متعاقدون منذ 23 سنة، ومن يتقاضى راتبه بالساعة منذ 15 سنة، ولا يزال الملف بحاجة لمزيد من التفكير.

75 ألف طالب في الجامعة اللبنانية ينتظرون كلمة رحمة من مجلس الوزراء، كي يذهبوا إلى امتحاناتهم، وأكثر من 100 ألف تلميذ في المدارس يريدون لمجلس النواب أن يجتمع، وينصف أساتذتهم، ليتمكنوا من نيل شهاداتهم الرسمية. مستفز حقا أن يكون الشعب يغلي أرقا وغضبا، ومصير آلاف الشبان على المحك، فيما يختلف الوزراء والنواب فيما بينهم على تفاصيل لم تعد تعني أحدا غيرهم.

غير مفهوم، مثلا – والوضع الاجتماعي متأزم ومحتقن على ما هو عليه – لماذا لا يعترف قادة الطوائف وجهابذتها صراحة بأن قضية انتخاب رئيس للجمهورية، كما قرار انتخاب مجلس نيابي، قبل 20 نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، هي مسائل باتت خاضعة بالكامل لتوازنات وتفاهمات خارجية، وأفلتت من دائرة إمكاناتهم المتواضعة؟ وبدل أن يمطروا الناس بتصاريح استعراضية حول تمسكهم بالدستور ومقام رئاسة الجمهورية وحرصهم على استقلالية القرار اللبناني، وهي كلها شعارات واهية لاستدرار عطف الناخبين، جدير بهم الالتفات، سريعا جدا، إلى أولويات داخلية ملحة تستحق سهرهم، وبذل غاية جهودهم، في الوقت الضائع، وهنا يكون تسجيل النقاط الانتخابية، لمن استطاع إليها سبيلا. بات الطلاب أشبه بمتاريس لأساتذتهم وهم يخوضون حربهم الضروس. الأساتذة أنفسهم رهائن سياسيون غالبا ما اعتبروا علاقاتهم الخارجية والخدمات الشخصية وسيلتهم إلى الكرسي لا بناء المؤسسات وتحصين موظفيها. لكن في غفلة من الجميع، تنمو في أوساط الحركات الاحتجاجية علاقات وطيدة بين فئات تغرد خارج سرب الأقفاص السياسية الجاهزة، آتية من مختلف المناطق والمذاهب، لا تربطها سوى رغبتها في تحصيل حقوقها ممن أهدرها وأمعن. مجموعات تطور تكتيكاتها، أساليب عملها، وسبل تأثيرها في الرأي العام، كما في صنع القرار. رب ضارة نافعة. مزيد من الظلم والاستهتار، أيها السياسيون، قد يجعل كسر القيد وانجلاء الليل أسرع وأمتع.