IMLebanon

جندي 1683 لاجئ 2015

الأرض، الثقافة، الظواهر المرَضيّة كداعش والقاعدة وكل الأصوليات، الضحايا واللاجئون منهم، الانهيارات والتخلف، كل ذلك مسلم أو في “أرض المسلمين”. لكن هل تعطينا إسلامية اللاعبين والظواهر الحق الكافي بـ”أسلمة” التاريخ من منظور رؤيته في الحاضر؟ الحاضر الذي هو معولمٌ أكثر منه مسلما. بل معولم وليس مسلماً!

أَكُنْتَ تعتبر نفْسك منذ زمن طويل “مريضاً” بالتاريخ، لا فقط بالمقارنات التأريخية ( الهمزة على الألف) بل أيضا بثقل التاريخ في فهم الحاضر بل صناعته،

أو كنتَ هذه الأيام وبتأثير الأوضاع الانهيارية في منطقتنا أصبحتَ ترى أن التاريخ نفسه هو “المريض”، أكنتَ مريضا بالتاريخ كما هي ثقافة معظم أبناء هذه المنطقة الذين لا زالوا يقيمون فيها رغم أنها لم تعد صالحة للسكن!

أو كان التاريخ هو “المريض” من حيث اجتياح الحاضر بل المستقبل للماضي وإعادة صناعة هذا الماضي أي السعي لتغييره، … أكنتَ هذا أو ذاك، لا شك أن “إسلاماً” جديدا بات موجودا لم يكن سابقا مهما ادعى السلفيون، من كل المذاهب المسلمة، أنهم يعيدون إحياءه. وليس من كائن أيديولوجي جديد بقدر الإسلام السلفي، الشيعي والسني، الذي انطلقت كل الحركات الأصولية المعاصرة في العمق من مثاله الوهمي المفترَض.

السلفية الآن مع آخر وأقوى وأوسع نسَخِها، وهي “داعش”، تبدو في حاضرنا أكبر أمراض التاريخ. فما معنى هذه الظاهرة المتوحشة إنْ لم تكن الحداثة نفسها حاملةً لفيروس التوحّش الذي أصاب بصيغة مختلفة في النصف الأول من القرن العشرين الحضارة الغربية نفسها عبر النازية والفاشية.

اسْتُهلِكَ هذا الكلام في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية حول الحضارة الغربية، مثلما استُهلك حول الإسلام بعد أحداث 11 أيلول.

لكننا في دورة جديدة، كأن القرن الحادي والعشرين، مثل أواخر القرن العشرين، لن يكف عن أن يكون “إسلاميّاً”. مع فارق أن الغرب يواصل تقدمه المذهل ومعه فقط المسلمون، ومنهم ملايين المواطنين الأوروبيين، الذين اندمجوا في مساره كطريق وحيد للتقدم. وأعطتهم أوروبا فرصة هذا الاندماج ولم يفرضوه هم عليها. أما المسلمون الآخرون، فعدد كبير منهم يسكن في بلدانهم الأصلية التي، أكرِّر، لم تعد، مبدئياً، صالحة للسكن.

كل هذه المقدمة التي طالت قليلا على عجالة مقالتي، لكي أتمكن من تقديم مقارنة تاريخية بين حدثين كبيرين. حصار فيينا العثماني عام 1683 و”حصار فيينا” الحالي عبر اللاجئين السوريين أساسا والمسلمين عموماً.

زحف الجيوش العثمانية الذي امتد في أوروبا الشرقية حوالي 150 عاما ووقف على أسوار فيينا كان ذروة التقدم المسلم العسكري و”حصار فيينا” الحالي، عبر أوروبا الشرقية هو ذروة الضعف بل هزال معظم العالم المسلم.

لكنْ إذا صحّت التقديرات بأن الحكومة التركية متورّطة مباشرةً وغير مباشرةٍ في تسهيل تدفّق اللاجئين السوريين والمسلمين إلى أوروبا عبر البوابة الشرق أوروبية، نكون أمام غزو مسلم جديد للطريق نفسها التي سلكتها جيوش الفاتحين العثمانيين في القرنين الخامس والسادس عشر.

حصار فيينا السابق كان غزو القوي الذي كانت قد بقيت لديه القوة العسكرية بعدما دخل في الانحطاط الحضاري أمام عصر النهضة الأوروبي، ولذلك هو مصطلح لا يحتاج إلى وضعه بين مزدوجين.

أما “حصار فيينا” الحالي فهو غزو الضعيف والضعيف جدا حضاريا وسياسيا وعسكريا. ولذلك هو مصطلح مجازي.

يقف ” تركي” مهمٌ ملتبِسٌ ومُختَلَفٌ عليه على مرتفعات الحصار الحالي 2015 بينما وقف تركي عظيم واضح على مرتفعات الحصار السابق 1683.

هذا لا يطرح السؤال فقط عن البعد الأوروبي في الجغرافيا السياسية لتركيا، وهو بعد تأسيسي عثماني وجمهوري كما يُجمع كل مثقفي تركيا الكبار المعاصرين، بل أيضا عن البعد التناقضي الذي تنظر فيه الدولة التركية، بقيادتها الحالية، إلى علاقتها بأوروبا. اللاجئون كقوة ضغط تركية على أوروبا الغربية الرافضة أكثر وأكثر مع “أسلمة” تركيا “حزب العدالة والتنمية” لمزيد من الاندماج التركي بأوروبا.

تُحرّك فكرة “المكافأة” التي عبّرت عنها بعض الصحف الغربية تعليقا على الاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي بمنح الثاني للأولى مساعدة (ثلاثة مليارات أورو) لتحسين أوضاع اللاجئين السوريين على أراضيها، تُحّرِّك بل تستدعي إشكالات الذاكرة الجماعية للعالم الشرق أوسطي بل المسلم كله.

المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وهي المعنية الكبرى بملف اللاجئين قالتها صراحةً أنه لا يمكن معالجة موضوع تدفّق اللاجئين السوريين من دون التفاهم مع الدولة التركية. وقد حصل شيء من ذلك في صفقة بروكسيل الأخيرة، حيث حاول الاتحاد الأوروبي إيجاد صيغة توازن بين حاجة الآلة الصناعية الضخمة والمتنامية والديموغرافيا الهرمة وبين فلتان اللجوء غير الشرعي والمتفاقم. وهي صيغة تفترض نظريا وأخلاقيا، أن تشمل أو تتواكب مع جهود إنهاء الحرب السورية؟؟؟

أوروبا تحت الضغط. مما يجدّد السؤال من أين يأتي الرئيس رجب طيِّب أردوغان بهذه القدرة على ممارسة أدوار خطيرة: اللاجئون، العلاقة الملتبسة والخطرة مع “داعش”، الصدام مع روسيا… لو لم تكن هناك تغطية ما أميركية لهذه الأدوار؟ حتى لو كانت السفارة الأميركية في أنقرة لا تكف عن انتقاد اعتقالاته المتزايدة للصحافيين. لكن هذه لعبة تتقنها وزارة الخارجية الأميركية سابقا وحاليا في بلدان عديدة. التحالف والنقد معا.

استغرقت أوروبا أكثر من ماية وخمسين عاما لتوقف نهائيا زحف القوة المسلم العثماني أمام أسوار فيينا فكم سيستغرق هذه الأوروبا وقف زحف الضُعف المسلم؟

سؤال لا بد منه: هل نؤسلم التاريخ، التاريخ كمسلمين، بما فيه تاريخنا غير المسلم، أكثر مما يجب إلى حد تضليل أنفسنا ربما؟

ففي الإطار المطروح هنا، الأرض، الثقافة، الظواهر السرطانية كداعش والقاعدة وكل الأصوليات، الضحايا واللاجئون منهم، الانهيارات والتخلف، كل ذلك مسلم. لكن هل تعطينا إسلامية اللاعبين والظواهر الحق الكافي بـ”أسلمة” التاريخ من منظور رؤيته في الحاضر؟ الحاضر الذي هو معولمٌ أكثر منه مسلما. لهذا وأنا مأخوذ بفكرة المقارنة بين فيينا القوة وفيينا الضعف، وكلاهما حصاران للمدى الحيوي والثقافي للمدينة، قرأتُ من حسن حظي هذه الفقرة من مقال الروائية الهندية الأصل أرونداتي روي كاتبة ” إله الأشياء الصغيرة” الذي نشرته مؤخرا صحيفة ” الغارديان” في 28 تشرين الثاني المنصرم بعد لقاء الروائية والممثل الأميركي جون كوزاك للمنشق الأميركي إدوار سنودن الهارب إلى روسيا من القضاء الأميركي بعد تسريبه وثائقَ حكوميةٍ أميركيةٍ مصنفةً عالية السرية.

تكتب أرونداتي كلمات لا دين ولا جهوية فيها:

“أخط هذه السطور في وقتٍ يتدفق فيه اللاجئون إلى أوروبا – نتيجة السياسة الخارجية التي انتهجتها الولايات المتحدة وأوروبا على امتداد عقود في “الشرق الأوسط” – ما يدفعني إلى التساؤل: من هو اللاجئ؟ هل إدوارد سنودن لاجئ؟ بالطبع هو كذلك. فبسبب ما فعله، لا يمكنه العودة إلى المكان الذي يعتبره موطنه (على الرغم من أنه يمكنه أن يستمر في العيش حيث يجد الراحة الأكبر – داخل الإنترنت). اللاجئون الهاربون من الحروب في أفغانستان والعراق وسوريا هم لاجئو حروب اللايفستايل أو نمط الحياة. أما آلاف الأشخاص الذين يُسجَنون ويُقتَلون في حروب اللايفستايل نفسها في بلدان مثل الهند، الملايين الذين يُطرَدون من أراضيهم ومزارعهم، ويُنفَون من كل ما عرفوه يوماً – لغتهم، تاريخهم، المشهد الطبيعي الذي ساهم في تكوينهم – فليسوا كذلك. ما دام بؤسهم محصوراً داخل حدود بلدانـ”هم” التي رُسِمت بطريقة عشوائية، فهم لا يُعتبَرون لاجئين. لكنهم لاجئون. وبالتأكيد، على صعيد الأعداد، هؤلاء الأشخاص هم الأكثرية العظمى في العالم اليوم. لسوء الحظ، هؤلاء لا يستوفون مواصفات اللاجئين في المخيّلات المكبّلة داخل شبكة من البلدان والحدود، وفي العقول المقيّدة بالأعلام”.

… عندما تقول المقارنةُ لا وجه أو أوجه للشبه فإن عدم التشابه يقدِّم مرّتين أكثر وأغنى مما يقوله التشابه.