في افتتاحية “النهار” صباح ١٦ كانون الاول الحالي، اختار كبير الكتاب والاُدباء سمير عطاالله فيروز شخصية العام ٢٠١٥ في ثمانينيتها. لعله الاختيار الاكثر تعبيرا، ليس عن وجدانية لبنانية مفعمة بالحنين المنفجر الى كبار فقط، وانما ايضا، كما نظن، عن يتم الكبار الذي بات عليه لبنان.
والحال ان أسوأ ما في الابحار في الأشهر الـ١٢ من هذه السنة الآفلة يعيد اللبنانيين برفة جفن خاطفة الى نهايات السنة السابقة اياها، فلا يعثرون على خلاصة مخالفة. تلك انتهت بعنوان الفراغ الرئاسي والمؤسساتي وضحالة الدولة، وهذه تقفل على مزيد متراكم من الشيء نفسه. فقط تراكم زمني ممل ورتيب، كأن أيامنا مجرد عداد رقمي لا قيمة معه للأعمار المتسارعة والزمن المهدور والذوبان التصاعدي لمفهوم الدولة والمؤسسات الناظمة للحياة العامة والإنماء والتطور. ومع ذلك فإن سنة بلا بطل، وبلا رجل العام او امرأة العام، لا تعني انها فاقدة الاهلية لتفحص احوال من جعلها بكل هذا العقم. مرات كثيرة يكمن التمايز في أقصى درجات العجز إطلاقا، على ما ينطبق تماما على فرسان الطبقة السياسية اللبنانية في الاختبار الأقسى الذي أسقط هذه الطبقة وقوضها بل ودمرها تدميرا بشعا مهما حاولت، بكل اتجاهاتها، تجميل واقعها الدراماتيكي بالزعم انها لا تزال تقيم على بقايا قوة تمثيلية من هنا وهناك.
ليس صحيحا الانطباع المعمم في الشهرين الاخيرين من السنة بأن مبادرة لانتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية التي تعيش منذ ٢٥ أيار ٢٠١٤ الفراغ الرئاسي هي التي شلعت معسكري أو تحالفي ١٤ آذار و٨ آذار السياسيين العملاقين اللذين “حكما” لبنان بموجب قواعد الصراع والاشتباك حينا والتسويات المرحلية والظرفية أحيانا، منذ عام ٢٠٠٥. بل جاءت هذه المبادرة كصاعقة نار على أرض يابسة متلهفة لاي شرارة حريق. اعتملت تداعيات الفراغ تحت جنح واقع قوى مأزومة لم تكتشف معنى أن يبقى لبنان من دون رأس ناظم للجمهورية زهاء ١٩ شهرا مع كل الابتلاء الذي عممه الفراغ مصحوبا بتعطيل مجلس الوزراء وشله، وكذلك مجلس النواب الى حدود تجويف المفهوم الدستوري للنظام تجويفا لم يسبق ان حصل مثله حتى في عز حقبات الحرب اللبنانية بين ١٩٧٥ و١٩٩٠. كان وقع الفراغ عام ٢٠١٤ ثقيلا حتما لكونه أكل من ذاك العام نحو سبعة أشهر، لكن تداعياته ظلت في حدود الممكن ” المعتاد ” والموروث من تجارب فراغ سابقة ، الامر الذي لم يسقط الأمل المفتوح بالسنة التي تلي واليوم التالي. أما أن تتناسل الازمة، محمولة بمزيد من التداعيات والانعكاسات والازمات الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك بتصاعد هو الاخطر في أزمة النظام السياسي والدستوري، طوال أشهر سنة ٢٠١٥ فكان النذير الاشد وطأة حيال سقوط خطوط الأمان وأحزمته وضوابطه في كل شيء: السياسة والأمن والاقتصاد والواقع الاجتماعي والأهم في مفهوم قوى سياسية يفترض أنها تستقي بقايا شرعيتها ومشروعيتها اولا وأخيرا من تمثيل الناس ومعنى التفويض الشعبي الذي يلزم هذه القوى حماية الانتظام العام ضمن قواعد النظام وأصوله لا تقويضه.
أنجبت هذه السنة مولودا “طارئا” على المشهد الداخلي سمي “الحراك المدني” أقام الدنيا ولم يقعدها في الأشهر الاولى من حركته الدينامية المفعمة بتراكم احتقانات الناس، وشكل علامة مضيئة في قابلية اللبنانيين الى الانتفاض والاحتجاج على التهميش الاجتماعي المتمادي والمدمر لقضايا اللبنانيين تحت وطأة الأنانيات السياسية وفسادها الشره. لم تكن ولادة هذا الحراك، على رغم انحساره الدراماتيكي لاحقا، سوى نتيجة حتمية لتقوقع القوى السياسية في مفهوم “العسكرة” السياسية والتمثيلية والطائفية والمذهبية التي تقيم السدود المتينة غير القابلة للاختراق امام انفجارات اجتماعية كان يفترض ان تحمل اكبر ثورة اجتماعية اصلاحية حقيقية في تاريخ لبنان الحديث. ولعله من أسف عميم أن هذا الحراك تلاشى بدوره امام سطوة القوى السياسية في الوقت الذي كانت فيه الطبقة السياسية بمجملها تنازع من حيث لا تدري الاتجاه المتسارع نحو التدمير الذاتي لفريقي الصراع جراء التحجير على أزمة الفراغ الرئاسي والمؤسساتي. لم تسقط القوى السياسية بالضربة الاجتماعية القاضية، بل صدتها بمنتهى الدهاء والخبث والخبرة المزمنة، لكنها نازعت السقوط الكبير حين اصطدمت المشاريع والحسابات والمعارك السياسية والشخصية بعضها بالبعض الاخر على تخوم تحريك الازمة الرئاسية.
ميشال عون او سليمان فرنجية هي معادلة نهاية السنة الثانية من أزمة الفراغ وما بينهما “عراب” واحد هو سعد الحريري الذي خاض تجربتين مع كل من مرشحي ٨ آذار اختلفت ظروف كل منهما اقليميا وداخليا. ولكنها خلاصة غرائبية بالكامل لسنة تمادى فيها الفيتو الذي يضربه الحزب القوي، “حزب الله”، على انتخاب أي رئيس سوى الجنرال عون بمعيّة التكتل العوني وحلفائه. انبرى زعيم “المستقبل” لمبادرة ترشيح فرنجية بعد مخاض سري بدأ في الأشهر الثلاثة الاخيرة من السنة، فإذا به يشعل النيران في قلب دار التحالف السيادي نفسه، أسوة ببيوت الخصوم. الرجل القوي في ١٤ آذار “الحكيم” سمير جعجع والمرشح الرسمي العلني المستمر لقوى ١٤ آذار والعاقد “اعلان النيات” مع الجنرال عون في احتفالية تصالحية غير مسبوقة للثنائية المسيحية التي تعمدت قبل ربع قرن بدماء حرب الأخوة الأعداء، سرعان ما شكل رأس الحربة الرافضة لخيار حليفه، لترتطم قوى التحالف السيادي لأول مرة بهزة زلزالية شديدة الخطورة. في المقابل، اقتحم الخيار المر فريق ٨ آذار ولا سيما منه “حزب الله” الذي صار عليه ان يغرق بترف غير مسبوق مع امتلاكه ورقة المرشحين الكبيرين، لكنه بات كمن عليه أن يختار بين ابن وابنه الآخر. ولكن الحزب الذي لا يهوى حشره حتى في زوايا المكاسب، حاول المواءمة بين تعهده “المقدس” بدعم حليفه الاستراتيجي الاول الذي خاض معه معركة تعطيل الاستحقاق منذ ١٩ شهرا لئلا يفقده، وحليفه الاستراتيجي الاخر بعدم القطع نهائيا مع فرصته بتثبيت تصنيفه المرشح الثاني. ومع ذلك لم يقل الاثر “التقويضي” لهذه الهدية على فريق ٨ آذار عن التداعيات في تحالف الخصوم. ذهب الرئيس الحريري في أقصى أحواله صعوبة الى أقصى الخيارات ليقول انه آن الاوان لنهاية الفراغ بكلفة عالية بعد ١٩ شهرا من تكلّس البلد. هل تراها تنفع هذه المعادلة في إيقاظ المسيحيين تحديدا على التذكير بأن الطائف وضع في معادلة مشابهة؟