IMLebanon

بارقة أمل بين جدران مغلقة

 

هل سيغيّر «حزب الله» من استمراره في تعقيد وتعطيل تأليف الحكومة؟ هل سيلبّي نداءات الهيئات الاقتصادية التي تُنذر بانهيار الوضع المالي، (وقد يعني انهياراً في الوضع الاجتماعي)، هل ستنفع «وساطات» رئيس الجمهورية لإقناعه بتنازلات «معقولة» لكي تُحل بعض العقد المفتعلة؟ فالرئيس ميشال عون (المؤتمن على الدستور)، سبق أن جرّب، مرات عدّة، وكذلك وزيره جبران باسيل في «مفاوضات» مكوكية ولم تُجدِ محاولاته سبيلاً. حتى كتابة هذه السطور يُحكى عن «بارقة» أمل. ولكن قد نكون استشففنا من كلام محمد رعد وكأن هذه البارقة لا «تستجيب» لمطالبه. وشارك آخرون بمطالبة الجميع تدوير زواياهم «رحمة بالبلد»، لكن عبثاً.. «كناطحي صخرة».. لكن هذا «العناد» والاستكبار، والشعور بالتفوق، وراءه ما وراءه. فمواقف الحزب (ومعه حليفه بشار) يريدان أموراً أخرى، كلها تدور، إذا أمعنا النظر حول «ضرب صلاحيات رئيس الحكومة (الدستورية)، وانتزاع التكليف منه؟.. تمهيداً لإخراجه». فالمسألة إذاً متعلقة بالدستور. أي بالنظام (بحسب اتفاق الطائف)، أي بالانقلاب عليه ووضع صيغة جديدة تناسب قوة الحزب وسلاحه (لا شعبيته) التي تعتبرها 8 آذار هي الأساس في التعامل مع الحياة السياسية اللبنانية. وهذا برز في مظاهر عدة. مشروع رسالة رئيس الجمهورية إلى مجلس النواب ليكون «الحكم». فالمجلس لعب دوره بتكليف الرئيس الحريري، والباقي يعود إلى هذا الأخير لتأليف الحكومة بالتشاور مع رئيس الجمهورية، وإذا صحّ ذلك، فلماذا لا يحيلون كل قرارات الرئاسة على المجلس للتصويت، وعلى المجلس النيابي عندها، أن يعطي الثقة للحكومة أو يحجبها.

 

هذه هي المعادلة الدستورية. ولأنها كذلك فالحزب يريد نسفها، لنسف النظام، بكل بساطة.. إلا إذا كان سيكتفي «مرحلياً» (بانتظار ظروف أخرى)، بالحصول على الثلث المعطل، من رئيسي الجمهورية والحكومة.. ليتحكم بكل القرارات الصغيرة والكبيرة. فهل تحقيق هذا الأمر آخر ما يظهر من «رأس جبل الجليد»؟ لا نظن ذلك، فالمايسترو السيد حسن نصرالله سيُخرج من أكمامه أرانب أخرى، تتجاوز كل مطالبه الراهنة. فالمطلب «العميق» ليس فقط الثلث المعطل على المدى البعيد، بل البلاد بأكملها، واستخدام المجلس النيابي هذه المرة (والأكثرية لـ8 آذار)، لإكمال ما بدأه في 7 أيار، وإن تشابهت الطرق في الضغط على الجميع (عراضة وهاب في الجبل، وفي السويداء، ومظاهر ميليشياته المستعارة من الحزب… وزيارة وفود مهنئة من هذا الحزب شاركها سفير النظام السوري..)، وكأنها تثبيت لحركة وهاب، وتشجيع على إكمالها، تحدياً للدولة، وللقانون، وللجيش، ولقوى الأمن.. ورئيسي الجمهورية والحكومة: أي كل ما زال يمثل الشرعية. بمعنى أنه إذا كان وهاب، يعلن ما يشبه «العصيان المسلح» على الدولة، فإن الحزب لا يسانده فقط، بل هو أصلاً صاحب الفكرة: الدولة عند الدويلة، والرئاستان عند المرشد الوكيل، والشعب مختزل بأقلية. لكن هناك مَن يقول إن المسألة محددة تتعلق بعزلة إيران والحزب بعد هزيمتهما في سوريا، والعراق واليمن. وكسر هذه العزلة مسرحها لبنان الذي جُعل رهينة للضغط على أميركا وأوروبا.. لتعديل مواقفهما من العقوبات. فعراضات الصواريخ الباليستية التي تُهدد بها إيران.. تماثلها عراضات الحزب (عبر وهاب) وفي الجبل: ميني فوضى وعنفاً، وتهديد إيران ترامب وكل من يسانده بالهزيمة النكراء، وبأن لا نفط للخليج إذا حُرمت إيران من تصدير نفطها.. كل ذلك يطرح على حلبة إيران، وكذلك على حلبة لبنان: فالجبهتان موصولتان بوكلاء وبعملاء لا يردعهم شيء عن افتعال أزمات كبرى كرمى لخامنئي: فالحزب الذي ساق ألوف المسلحين من طائفته ليقدم دماءَهم نذوراً على مذبح ولاية الفقيه، لا يتردد لحظة في تدمير بلاده على رؤوس أهله وشعبه. من هنا بالذات، من العسير معرفة الحدود التي سيدركها الحزب (ووراءه سفاح دمشق)، في جعل هذا الوطن الصغير وسيلة، مجرد وسيلة لدعم موقف إيران التخريبي: أهو الثلث المعطل؟ أهو تغيير الدستور؟ أهو قلب المعادلات؟ أهو اللجوء إلى الاغتيالات؟ أهي حروب مناطقية أو «عمومية» تنشر الفوضى والدماء؟ أهو انتزاع دور السُنّة من دستور الطائف لتهميشهم، وقد يليه انتزاع حضور القوى المسيحية وسواها، لاستفراد البلاد، وجعلها ولاية إيرانية (كما سبق أن تبجّح بذلك العديد من المسؤولين الإيرانيين، وعلى رأسهم المرشد خامنئي)؟ فالمايسترو يلعب لعبة «المراحل»، والقرض، والنهش، والفصل، يهيمن شيئاً فشيئاً على المؤسسات، فهل ينجح في ذلك؟ فقد اخترق مؤسسات أمنية وقضائية عدة، وها هو يخترق بقوة مجلس النواب.. وهو في طريقه لتغيير وجه الحكومة، لتستكمل صورة الاستئثار، وها هو يزعم باختراق الدروز لجعل قسم منهم بمعيته (وإضعاف جنبلاط)، واختراق السُنّة (وإضعاف الحريري)، وكذلك لإيهام الرأي العام الداخلي والخارجي بأنه «حزب عابر للطوائف»! بل ليصور للعالم أن هذه الاختراقات هي برسم إيران، ربما ليلطّف صورته السوداء أمام العالم، وإدراجه كحزب إرهابي، ومنعزل داخل طائفته. بل أكثر: يجعل من هؤلاء «المخترقين» الجدد غطاء لكل ما يمكن أن يرتكبه من أحداث، أو محاولات تعديل الميثاق والدستور. فهذه المحاولات ليست «شيعية» فقط، بل هي متعددة الأطراف السياسية والطائفية، تغطية لكل احتمال انقلابي يُغامر به.

 

سُنّة الحزب المستقلون

 

ويعرف الحزب ان «سُنّته الستة» و«وهّابه» لا يشكلون أي ثقل لا عند السُنّة ولا عند الدروز. بل إنهم مجرد ودائع عرفنا مثيلاتها أيام الوصاية السورية، وهم جزء من ظواهر مرحلية لا تنمو ولا تتوسع، إلا باستكمال تسليحهم كميليشيات تابعة له، ليقوموا بالمهمات القذرة التي يتخفّى وراءها. وعندنا اليوم مثل آخر ربما أخطر وأفعل من هؤلاء هو «داعش» الذي فبركه الأسد وخامنئي، ليكون تحت إمرتهما لتنفيذ عمليات إرهابية في العالم العربي وفي بعض دول أوروبا التي ما زالت متمسكة برحيل الأسد، أو على غير وفاق مع إيران. فداعش هو من أذرع النظام السوري، تماماً كما السُنّة الستة و«وهاب». إذاً، بات عند 8 آذار «داعش»، وميليشيات سنّية ودرزية صنيعة الحزب. ونظنهم باتوا على جهوزية تامة، لتنفيذ ما يُطلب منهم، بل هم جزء إضافي من ميليشيا «حزب الله»، وقوات الأسد، و«الحرس الثوري». ولا نستبعد أن تظهر بعد مدة إلى العلن في الوقت المناسب فرق مسلحة «يقودها» بعض السُنّة الستة، بعد بروز مسلحي وهّاب في الجبل. أين سيظهرون لاحقاً، ربما في البقاع، أو في بيروت أو في طرابلس: غبّ الطلب.

 

سؤال الحزب

 

لكن السؤال: إذا كان الحزب يسعى إلى الانخراط في العمل السياسي في لبنان، فلماذا يُنشئ هذه الميليشيات؟ ويعني ذلك، وإلى حد كبير، أنه يهيّئ كل الأدوات والظروف تحديداً للساعة الصفر للانقضاض على لبنان أو تعميق اللعبة الحالية وتعميمها بشروط ومطالب، لتغيير النظام، ودستوره وميثاقه.

 

حافة الخطر

 

لطالما كان لبنان بعد الاستقلال وقبله على حافة الخطر، في منتصف القرن التاسع عشر، وفي 1958، و1975 وتوابعها. لطالما كان هناك مَن يطمع به، من الاستعمار الأجنبي إلى وصايات الأنظمة العربية الاستبدادية فإلى إسرائيل. وقد استخدم كل هؤلاء نقطة الضعف في التركيبة الطائفية، الهشّة، والنظام الديموقراطي الهشّ (وكل ديموقراطية محاطة بالديكتاتورية أو سواها هي هشّة). دائماً على حافة الهاوية. لكنه، كان ينبعث من بين أنقاضه، وينجو من كل أخطاره. اليوم، يجد لبنان نفسه في المواقع التي عرفها من قبل، بين كماشتي إسرائيل وإيران ونظام الأسد؛ فإسرائيل من جهة تهدّد لبنان، وتطالب بإنزال العقوبات الدولية به، والثنائي السوري – الإيراني يستمر في تهديد كيانه ومقوماته ووحدته ودوره: والغريب أن التهديدات تتزامن: فنتنياهو يستعرض أنفاق الحزب داخل الخط الأزرق ويتوعّد، و«حزب الله» بصواريخه وأسلحته يتوعد: لكن الغريب أن الجهتين متناغمتان في الحرص على إبقاء وضعيهما دفاعيين، فلا نتنياهو يريد (كما يستنتج كثيرون) الحرب الآن، ولا الحزب. لكن الأغرب، أنه إذا كانت إسرائيل التي تحتل جزءاً من لبنان في موقع «الدفاع»، فهذا شأن المحتلين، لكن «حزب الله» الذي يقاوم «الاحتلال» ويرتكب تحت هذا الشعار كل أشكال التخريب، من الطبيعي أن يكون معنياً بتحرير الأرض، فدور المقاومة هو التحرير، ودور الاحتلال هو تحصين وجوده: فكيف يرفع المحتل شعار «الدفاع» (إذا هاجمنا الحزب سنرد بقوة)، وكذلك ترفع المقاومة المزعومة الشعار ذاته «إذا هاجمت إسرائيل فستصل صواريخنا إلى كل منطقة وبيت». نفهم من ذلك، أن «الإثنين» الصهاينة والحزب يتمسكان بـ«الستاتيكو» السائد في الجولان: أنتم أبقوا محتلين جزءاً من لبنان، ونحن نضمن لكم الاستقرار في الأرض المحتلة، وفي المستوطنات. وهكذا يبقى لبنان مشلولاً بين تهديدات وأخرى مضادة، وإن نظرية، فكأن الطرفين العدو والمقاومة «يعوّمان بعضهما»: نتنياهو في أزماته الداخلية، و«حزب الله» في مشاريعه «الداخلية»، والمضحك أن إيران تتوج هذه التهديدات بسلاحها الباليستي، وتتوعد إسرائيل وأميركا والعالم.. من دون أن ترد حتى على القصف الإسرائيلي الجوي لمواقعها في سوريا. ولطالما سمعنا مثل هذه الشعارات من قبل: بعض الأنظمة العربية «الثورية» قبل عام 1967، و1973، لم تتوقف عن تهديد العدو بإبادته وهزيمته.. لكن كانت المحصلة أن عقد حافظ الأسد وإسرائيل اتفاق «فض الاشتباك» في الجولان.. ليبقى الجولان بهذه الاتفاقية «يهودياً إلى الأبد».

 

عنجهيات متبادلة

 

هذه العنجهيات ألفنا جوقاتها، اليوم، وفي عز الأزمة الحكومية ينبري المسؤولون الإسرائيليون بالتهديد الشرطي، وكذلك الحزب. وكلاهما يحاول إثبات قوة «مفترضة» غير مستخدمة إلا للصراخ والصياح.

 

وهذا ليس بعيداً عن مناخات تأليف الحكومة: الحزب يعوض عن «تحرير» مزارع شبعا، بكلام عالٍ، لكن أيضاً بافتعال تعقيدات داخلية. كأنه يستفيد من وضعه مع العدو، لكي يحدث ما يريد أن يحدث من انقلاب. (ولا نظن أن ذلك لو تم سيغيّر وضعه بمقاومة إسرائيل اللفظية على الحدود الجنوبية وفي مزارع شبعا). فكأن الأزمة اللبنانية هي تعبير آخر عن الستاتيكو بين الطرفين. بل هذا يمنح الحزب ورقة إضافية لاستكمال مشروعه. أوليس الستاتيكو نفسه بين سوريا وإسرائيل (في الجولان) هو الذي أتاح للنظام البعثي الدخول إلى لبنان وفرض الوصاية عليه، بعد تصفيته المقاومة الفلسطينية؟ من هنا، تبقى أزمة تعطيل الحكومة، هي مسألة سيادية، ولكن أيضاً كيانية، وديموقراطية: فالسياديون (من السابقين والراهنين) يخوضون معركة مصيرية للحفاظ على لبنان، بدستوره وكيانه، وعلى رأسهم الرئيس المكلّف سعد الحريري، الذي يواجه خصوماً متمسكين بانتهاك الدولة، والحدود، والنظام والأمن.. وقد قدّم في سبيل ذلك تضحيات بدأت بموافقته على القانون النسبي في الانتخابات النيابية، وقدّم تنازلات في سياق تأليف الحكومة.. وها هو يحاول في لبنان والعالم أن يعطي صورة سياسية عادية للبنان لتسهيل المساعدات الموعود بها من «مؤتمر سيدر» والعمل على رفض الانجرار في مشاريع الفتنة، والرئيس عون، في لقاءاته المتعددة مع الأطراف لا سيما مع «حزب الله» و«النواب الستة السنة» المحسوبين على إيران، لكن هل سيستطيع الرئيسان أن ينجحا في مساعيهما لتجاوز الأزمة (على الأقل مرحلياً)، ليكون ذلك منطلقاً لمواجهات كثيرة، سيفتعلها الحزب و8 آذاره، في سياق تصميمه على السيطرة الكاملة على لبنان؟..

 

هنا تلمع «بارقة الأمل» في أنفاق الحزب، لكنها تبقى بالنسبة إليه كالتماع البرق الذي لا يلبث أن ينطفئ… بين يديه.

 

بول شاوول