IMLebanon

عبد الرحمن البزري: كلّ مواطن خفير… على صحته

لا يخفي النائب عبد الرحمن البزري امتعاضه من الازدحام الذي شهده في مصعد مبنى جريدة «الأخبار»، ومن عدم الالتزام بالتدابير الوقائية. يحذّر من انتقال الجراثيم ومن التلوّث ومن انتشار الأوبئة في ظلّ مؤشرات صحية مقلقة، منها ما هو أساسي مثل مستوى التلقيح العام والخاص، ومنها ما هو مرتبط بالأزمة الصحية المكتملة العناصر: استشفائياً ودوائياً ووبائياً. باختصار، الاختصاصي في الأمراض الجرثومية غير متفائل ونصيحته الوحيدة: الوقاية

هل نحن مقبلون على سيناريو جدري قرود شبيه بسيناريو كوفيد ــ 19؟

ـ بالطبع لا. علمياً، يختلف جدري القرود تماماً عن كوفيد ــ 19. فهو في الدرجة الأولى “دي إن إي” (DNA) فيروس وليس “آر إن إي” (RNA) فيروساً كما هو فيروس كورونا، وبالتالي فإن إمكانية أن يتحوّر ويتغيّر صعبة جداً. ولذلك يُعدّ من الفيروسات المستقرّة التي لا تتغيّر بشكل دائم.
أضف إلى ذلك، أن جدري القرود موجود بيننا منذ عقود طويلة، ولكن ما تغيّر فيه أمران: أوّلهما أنه حين قضينا عليه قبل أربعين عاماً، لم نعد نعطي اللقاح الخاص به وقد أدى غيابه إلى ازدياد الحالات بنسبة مقبولة اليوم من دون أن يتسبّب ذلك بحدوث وباء. الأمر الثاني، وهو الأكثر احتمالاً، أننا كبشر تعدّينا على بيئة بيولوجية. كان جدري القرود متعايشاً مع مضيفه الحيواني بشكلٍ سليم، لكن عندما دخلنا إلى بيئته تعرّضنا للفيروس، وبما أن العالم صغير اليوم انتقل من بلدٍ إلى آخر وسُجلت عدة مئاتٍ من الحالات وصولاً إلى دخول أول حالة إلى لبنان قبل أسبوع.

ماذا عن اللقاحات؟ وهل يفي لقاح الجدري العادي بغرض الوقاية؟
ـ نظرياً، الملقّحون بلقاح الجدري يكوّنون مناعة ضد جدري القرود أكثر ممن لم يتلقوا اللقاح. لكن نحن نعرف أن لقاح جدري القرود لم يعد يُستخدم منذ الثمانينيات ولذلك لم يعد متوافراً كغيره. بعض الدول التي طوّرته، حفظته لديها لسببين: أولهما الإبقاء على التقنية موجودة ذلك أن “الفاكسينيا فيروس” والتي يُصنع منها لقاح الجدري يمكن أن تكون حاملاً جيداً للقاحات متطوّرة لأمراض جديدة في المستقبل. والأمر الثاني هو أنه في مرض مميت مثل الجدري، انقراض اللقاح يعني أن الإنسانية لم تعد تملك مناعة ضده. وهذا يعني أن بعض الدول حافظت عليه في إطار استراتيجية استخدامه كسلاح بيولوجي خطر، ولذلك أبقت على كميات لقاحية معينة لتستخدمها عند الحاجة. يمكن إضافة سبب ثالث هو أن العاملين الصحيين في المختبرات مع الحيوانات المصابة أو العاملين في الأبحاث المتعلقة بالجدري يجب أن يكونوا مُمنّعين ولذلك يتم الإبقاء عليه.

ما جديد فيروس كورونا؟ وهل نحن أمام موجة كبيرة؟
ـ بالنسبة إلى الوضع اللبناني، لا شك أننا نرى اليوم ازدياداً في الحالات المصابة بالفيروس وتوقعاتي أن الرقم الذي يحمله التقرير اليومي ليس دقيقاً وإنما هو أكبر بكثير فعلياً، ذلك أن هناك الكثير من الأشخاص الذين يلجأون اليوم إلى الفحص السريع “antigen” من دون أن تُسجّل هذه الأرقام ضمن الجدول، أضف إلى أن كلفة فحص الـpcr لم تعد ضمن قدرة الناس على تغطيتها بسبب الأزمة المالية وأزمة المواصلات أيضاً. ثمة سبب ثالث يتعلّق بأنه في بعض الأحيان يجري الفحص لمصاب واحد في العائلة، وهكذا عندما تظهر العوارض على بقية العائلة لا تسجل هذه الأرقام ضمن الحصيلة الرسمية. ولكن، حتى لا نثير الخوف بين الناس من دون مبرّر، باعتقادي أن هناك أمرين أساسيين لصالحنا في ما يخصّ انتشار الفيروس: أولهما أننا اكتسبنا مناعة مجتمعية نتيجة التلقيح ونتيجة الإصابة السابقة بالفيروس، ولدينا الكميات اللقاحية الكافية لتغطية الجرعتين الثالثة والرابعة. أما الأمر الآخر، وثانيهما يتعلّق بالمتحورات، وهنا نذكر أن آخر متحوّر هو “أوميكرون”، والذي يحمل في داخله متحوّرات جزئية منها أوميكرون A1 وA2 اللذان كانا ضمن الإصابات في لبنان، فيما لم يكن هناك من أثر لمتحوّرات جزئية ثانية. وقد أوصينا في اللجنة بالطلب من مختبرات متخصّصة الكشف عليها. ولكن، لا يزال الأمر إلى الآن ضمن الطبيعي.

جدري القرود لا يتحوّر ولا يتطوّر ونسبة انتشاره اليوم مقبولة

أليس من المفروض استئناف عملية التلقيح التي تراجعت في الآونة الأخيرة؟
ـ كلجنة وطنية لإدارة لقاح كورونا، التوصيات واضحة بالنسبة إلينا وهي متابعة التلقيح. ولكن ليس من صلاحياتنا التنفيذ الذي يقع على عاتق وزارة الصحة العامة. وتوصياتنا واضحة تماماً: الجرعة الثالثة يجب أن تكون جزءاً مكمّلاً لعملية التلقيح، لذلك ننصح كل اللبنانيين الذين لم يتلقوا هذه الجرعة أن يسارعوا إلى تلقيها. وما يجب قوله هو أن المعيار اليوم للتحصين لم يعد جرعتين، وإنما 3 جرعات، ولذلك أوصينا الوزارة أن من يكمل سجل لقاحاته ويقول “أنا ملقّح” يفترض أن يكون قد تلقّى 3 جرعات لا جرعتين. فنحن، وعالمياً، نعتبر أن قمة المناعة هي مع الجرعة الثالثة، والجرعة الرابعة التي نوصي بها اليوم، وإن كانت لا تضيف شيئاً إلى المناعة التي نكتسبها بالجرعة الثالثة، لكنها تطيل عمرها. ولدينا ما بين 800 إلى 900 ألف جرعة نستطيع من خلالها تلقيح مليون مواطن ضمن الجرعتين الثالثة والرابعة. والأمر الآخر بالنسبة إلى الجرعة الرابعة، هو أنها كما الثالثة، مفتوحة للجميع، ولذلك نقول بأن من لديه الرغبة بأخذ الجرعة الرابعة، فيمكنه بعد أربعة أشهر أو ستة أشهر من تاريخ تلقيه الجرعة الثالثة أن يأخذها. أكرّر أنها مفتوحة للكلّ، ولكن نفضل كلجنة أن تكون الأولوية لمن يعانون من نقص في المناعة، ولكبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة المتعدّدة والعاملين الصحيين خصوصاً أنهم على تماس مع المصابين، وقد ازدادت الإصابات بينهم أخيراً بسبب التخفّف من الإجراءات حتى داخل المستشفيات.

 

ماذا عن الإصابات الأخيرة بالتهاب الكبد الوبائي؟ وهل بات الحديث ممكناً عن وباء؟
ـ التهاب الكبد الوبائي هو اليوم في مرحلة الوباء، هذا أكيد، ولكن من الضروري القول بأن هذا المرض هو مرض مستوطن في لبنان بأنواعه الثلاثة “أ” و”ب” و”سي”، وبشكل خاص الـ”أ”، لأن طريقة انتقاله أسهل وتختلف عن النوعين الآخرين، إذ ينتقل الـ”بي” و”سي” بواسطة العلاقة الجنسية أو الوشم أو نقل الدم أو جرح اليد، فيما ينتقل الـ”أ” بالطريقة الفموية، وغالباً ما يحدث عبر تلوّث مصادر الطعام، وتلوّث المياه، فإما أننا نشرب مياهاً ملوّثة أو أن المياه الملوّثة تدخل إلى الخُضر وتتسبّب بنقل العدوى إلينا عبر تناولها بالأكل أو من خلال الاستخدام المنزلي. وبسبب استيطانه في لبنان، كنا نرى دائماً أعداداً معينة من الإصابة سنوياً، وكل عدة سنوات يحدث وباء محدود والذي كان آخره بحدود عام 2015، عندما وصلت أعداد الإصابات إلى ما يقرب من 2500 إصابة. وهذا ليس بأمر جديد.

تنقية المياه وتأمينها هما الحلّ للوقاية من التهاب الكبد الوبائي

هل الحل بالتلقيح؟ أو هناك حلول أخرى؟
ـ درست كخبير في الأمم المتحدة وكخبير محلي واقع الوباء عام 2015 مع مجموعة من الخبراء وتوصلنا إلى أن اللقاح ليس الجواب وإنما تنقية مصادر المياه وتأمينها. وأنا أقول اليوم لمرة ثانية إن المشكلة في المياه وانهيار البنية التحتية الصحية اللبنانية، إما بسبب الإهمال أو الفساد أو بسبب عدم قدرة العالم على تأمين المياه، أضف إلى أن المؤسسات المحلية والبلديات هي الأخرى لم تعد قادرة على تأمين المياه بسبب الأزمات. ولذلك تواصلنا مع المجتمع الدولي ومنظمة الصحة العالمية واليونيسف للرجوع مرة أخرى إلى الوضع الراهن والكشف على المناطق التي حدثت فيها حالات الزيادة في الإصابة بالالتهاب والعمل على درس إمكانية معالجة شبكات المياه وشبكات الصرف الصحي.

ماذا عن الواقع الاستشفائي اليوم في ظل تعدّد الأزمات والأوبئة؟ والواقع الصحي بشكل عام؟
ـ صحيح أننا نطمئن الناس إلى أن لا ضغط كبيراً على المستشفيات حتى مع ازدياد نسب الإصابة بفيروس كورونا، إلا أنه لا يجب أن ننسى أننا دخلنا موسم الإسهال والأكيد أن غالبية المستشفيات غير قادرة على حمل هذا العبء. نرى اليوم حالات إسهال كبيرة في البلد لأسباب كثيرة منها انقطاع الكهرباء وعدم القدرة على حفظ الطعام وتلوّث المياه وأيضاً تلوّث مصادر الطعام، خصوصاً أن الكثير من التجار اليوم يقتصدون في الاستيراد ويلجأون إلى مصادر طعام مختلفة غير موثوقة، وأنا أرى أن لبنان اليوم يدخل مرحلة ما يسمى بدول ذات الدخل الفردي الفقير، وبالتالي من الطبيعي أن يترافق ذلك مع تراجع كبير في مستويات الرقابة خاصة في ظل غياب الدولة. ولذلك أردّد دائماً أن المواطن اليوم هو الخفير على الأقل على نفسه. أضف إلى ذلك أن المستشفيات لم تعد لديها القدرة الاستيعابية ولا المعدّات والمستلزمات اللازمة للقيام بالدور الذي كانت تقوم به، ولذلك نحن أمام أزمة.

 

من جهة أخرى، لدينا انخفاض كبير في نسب التلقيح، حيث تنخفض نسبة التلقيح العام إلى 50% ونسبة التلقيح الخاص إلى 40%. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن هناك أجيالاً جديدة بدأت تكبر من دون مناعة، وهذا يقود إلى أننا في المستقبل سنرى أمراضاً جديدة وستعود أمراض أخرى. صحيح أن اللقاح اليوم متوافر في القطاع العام ومجاني، إلا أن الناس اليوم لم يعودوا يملكون القدرة على الوصول إليه. لذلك نحن مقبلون على أزمة صحية واستشفائية ودوائية ليست مرتبطة فقط بالملف الصحي وإنما أيضاً بالملف الاقتصادي والاجتماعي والخدماتي، فنحن في بلد لا كهرباء فيه ولا مياه ولا صرف صحي، وننتظر من الناس ألا يصابوا. هذا أمر صعب للغاية.