IMLebanon

عبدالله بو حبيب: رجل الدولة الحكيم والدبلوماسي الذي لا يغيب

 

برحيل الوزير السابق والدبلوماسي والمفكر الدكتور عبد الله بو حبيب، لا يفقد لبنان وجهاً بارزاً من وجوه الدبلوماسية الهادئة فحسب، بل يفتقد قامة وطنية شامخة، ورجل دولة من طراز فريد، استطاع أن يجمع بين عمق الخبرة الاقتصادية، ورصانة الممارسة السياسية، ونقاء السيرة الأخلاقية. فمساء الأربعاء، تَرجّل هذا الفارس النبيل عن صهوة جواده عن عمر يناهز 84 عاماً، تاركاً ورائه إرثاً غنياً من الحكمة والعطاء، وسيرة عطرة ستظل منارة تضيء دروب الأجيال القادمة.

وقد وُلد د. عبد الله بو حبيب في 21 تشرين الثاني 1941، في بلدة روميه الهادئة في جبل لبنان، ونشأ على قيم المثابرة والاجتهاد. وانطلق في رحلته العلمية من الجامعة الأميركية في بيروت، حيث نال شهادة البكالوريوس ثم الماجستير في الاقتصاد، قبل أن تحمله طموحاته إلى الولايات المتحدة، ليحصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد من جامعة فاندربيلت المرموقة. ولم تكن الدكتوراه مجرد لقب أكاديمي، بل كانت تتويجاً لشغفه العميق بفهم آليات الاقتصاد العالمي وتأثيره على مصائر الشعوب.

 

في عام 1976، انضم الدكتور بو حبيب إلى البنك الدولي، ليبدأ مسيرة مهنية لامعة امتدت لعقود. فلم يكن مجرد خبير اقتصادي، بل كان صاحب رؤية تنموية. حيث تدرّج في المناصب بكفاءة واقتدار، من خبير اقتصادي إلى كبير مسؤولي القروض لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وترك بصمات واضحة في دعم مشاريع تنموية غيّرت وجه مجتمعات بأكملها. وكانت خبرته الاقتصادية الواسعة، مقرونة بفهمه العميق لتعقيدات المنطقة، تجعل منه مرجعاً لا غنى عنه داخل أروقة المؤسسة الدولية.

كذلك، فقد شكّلت المحطة الدبلوماسية في مسيرة الدكتور بو حبيب علامة فارقة في تاريخ لبنان الحديث. فبين أيار 1983 وشباط 1990، في خضم واحدة من أحلك الفترات التي مرَّ بها الوطن، مَثّل لبنان سفيراً لدى الولايات المتحدة الأميركية. في هذه المهمة الحسّاسة، لم يكن مجرد ممثّل لبلاده، بل كان صوت لبنان المتزن في عاصمة القرار الدولي، فجمع بين الحنكة السياسية والرؤية الإصلاحية، مدافعاً عن قضايا وطنه بأسلوب هادئ ورصين، بعيداً عن الضجيج والانفعال. ولقد عكس بأدائه الدبلوماسي عمق ثقافته وحسّه الوطني، فكان مثالاً للدبلوماسي الذي يخدم وطنه بمسؤولية وعقلانية. أما بعد عودته من واشنطن، عاد الدكتور بو حبيب إلى البنك الدولي عام 1992، مستشاراً لنائب رئيس منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ثم رئيساً لوحدة الاتصال الإقليمي، مواصلاً عطائه في خدمة التنمية الدولية. وفي أيلول 2021، عاد ليخدم وطنه من جديد، هذه المرة كوزير للخارجية والمغتربين في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وهو المنصب الذي شغله حتى شباط 2025. في هذا الموقع، أثبت مرّة أخرى أنه الوزير الهادئ الذي يعكس بأدائه روح الدولة في زمن العواصف، فكانت دبلوماسيته ممارسة عقلانية ومسؤولة، لا مجرد مواقف إعلامية، بل تجسيداً حقيقياً لمبادئ الدبلوماسية الهادفة والبنّاءة. حيث كان مؤمناً بأن الحوار هو جسر العبور إلى الاستقرار، وسعى دائماً لخدمة قضايا لبنان في سياق عربي ودولي متوازن، مؤكداً على أهمية تعزيز الدعم للجيش اللبناني ومؤسسات الدولة لتمكينها من الاضطلاع بدورها كاملاً.

 

وكانت له بصمات لا تُمحى في الأوساط الأكاديمية والثقافية، حيث لم تقتصر مسيرة الدكتور بو حبيب على العمل الدبلوماسي والاقتصادي، بل كان وجهاً بارزاً في عالم الفكر والبحث، مؤمناً بأن العلم والمعرفة هما أساس التقدّم والنهضة. حيث سبق أن شغل منصب المدير الإداري لمركز عصام فارس، الذي يُعدّ منارة للفكر والحوار في لبنان والمنطقة، كما أشرف على العديد من المحاضرات والندوات التي أَثْرَتْ المشهد الثقافي. كما كان محاضراً متميّزاً في جامعة الحكمة منذ عام 2002، يشارك طلابه خبراته الواسعة ورؤاه العميقة، ويسعى لغرس قيم البحث العلمي والتفكير النقدي في نفوسهم. وإلى جانب ذلك، تولّى منصب نائب رئيس الرابطة المارونية بين عامي 2007 و2010، مساهماً في تعزيز الحوار والتفاهم بين مختلف الأطياف.

وقد تميّز الدكتور بو حبيب بغزارة إنتاجه الفكري، فكان كاتباً تحليلياً مرموقاً في العديد من الصحف، حيث عبّر بقلمه عن رؤى معمّقة للشأنين اللبناني والدولي. ولم يكن يكتب لمجرد الكتابة، بل كان قلمه أداة لخدمة قضايا وطنه وأمته، يسعى من خلالها إلى تقديم تحليلات موضوعية وحلول بنّاءة للتحديات التي تواجه لبنان والمنطقة في سياق عربي ودولي متوازن. ولقد كان رجلاً موسوعياً، يمتلك قدرة فريدة على الربط بين مختلف التخصصات، وتقديم رؤى شاملة تتجاوز حدود التفكير التقليدي.

وكان إنساناً قريباً من الجميع وضميراً وطنياً حيًّا، وهذا ما ميّزه حقاً، إلى جانب إنجازاته المهنية والفكرية، فكان له مزيجه الفريد من الصفات الأخلاقية التي جعلت منه إنساناً استثنائياً.

أضف إلى ما تقدّم، فقد كان د. بو حبيب ديبلوماسياً هادئاً ورجل دولة خلوقاً، يجمع في شخصه بين التواضع الجمّ والاحترام العميق للآخرين، وبين الجدّية والمثابرة في العمل. لم تستهوِه الأضواء، بل شغفته خدمة لبنان، فقد كان مؤمناً بأن العمل الصامت والمخلص هو السبيل الوحيد لبناء وطن قوي ومستقر. وكان رصين الموقف، لا يتسرّع في أحكامه، ويحرص دائماً على النقاش الهادئ والبنّاء، مستمعاً قبل أن يكون محاضراً، مما جعله قريباً من الجميع، ومحل ثقة وتقدير كل من عرفه أو عمل معه أو قرأ له.

وقد كانت علاقتي بالدكتور بو حبيب مميّزة، تعمّقت عبر حضوري المتواصل للمحاضرات والندوات في مركز عصام فارس. فلقد لمست فيه إنساناً حريصاً على النقاش الهادئ، مستمعاً قبل أن يكون محاضراً، مما يعكس تواضعه ورغبته الصادقة في تبادل الأفكار والاستفادة من الآخرين. كما توطّدت صداقتي به من خلال المستشار في المركز، الراحل العزيز الدكتور رغيد بك الصلح، الذي شكّل جسراً معرفياً وفكرياً بين النخب العربية، ممّا يدلّ على حرص الدكتور بو حبيب على بناء علاقات مبنية على الاحترام المتبادل والتقدير الفكري، وعلى إيمانه بأهمية الحوار والتواصل بين المثقفين ورجال الفكر.

وإنّ رحيل د. عبد الله بو حبيب اليوم يشكّل خسارة وطنية وإنسانية فادحة. فلقد كان صوتاً عقلانياً وضميراً وطنياً نفتقده في زمن الضجيج والانقسام. وبقي حتى أيامه الأخيرة متابعاً للشأن العام، مؤمناً بلبنان الدولة والرسالة، ولم يتوانَ عن تقديم النصح والمشورة، ساعياً دائماً إلى لمّ الشمل وتوحيد الصفوف في سبيل مصلحة الوطن العليا. ولقد ترك بصمات مدوّية في كل موقع شغله، وفي كل فكر طرحه، وفي كل علاقة بناها، رغم رحيله بصمت.

رحم الله الوزير الدكتور عبد الله بو حبيب، وأسكنه فسيح جناته. وتعازينا الحارّة لعائلته الكريمة، ولكل محبّيه وتلامذته، وللبنان الذي خسر برحيله قامة وطنية فذّة. ستبقى ذكراه الطيبة وسيرته العطرة خالدة في وجدان كل من عرفه، ومصدر إلهام للأجيال القادمة في حب الوطن والعلم والأخلاق. لا سيما أنه كان بحق رجل دولة وعلم وأخلاق وفكر، وسيظل اسمه محفوراً في سجلات التاريخ اللبناني بأحرف من نور.