IMLebanon

بعد أن يسقط الآباء

ــــ ١ ــــ

أنظر جيداً…. هل ترى ملهمين؟

لم يخرج زعماء لا من «الربيع» ولا «الحراك» ولا «الانتفاضة» هل هذه صدفة؟ خطيئة؟ خطأ؟ عيب؟ أزمة؟ أسباب للموت؟

المراثي المعدة سلفاً تقول: إنهم بلا قيادة/ زعامة، إنها حركات على المشاع، تسقط سريعاً أمام خطط محكمة.

فالحراك يذهب إلى عزلته، كالربيع الذي وصل سريعاً إلى خريفه، أما الانتفاضة الثالثة أو الهبَّة الفلسطينية، فهي من أجل «تحريك» بحيرة الزعماء من ركودها، هكذا يقول المحللون، في تفسير ما يحدث من أجل «تجديد القيادة».

كأنها أزمة قيادة؟ لا أزمة بنية؟

ما نراه ونعيشه ليس خراباً مجرداً، لكنه الخراب المصاحب لمحاولة المجتمع الإفاقة من غيبوبة طويلة، ونهاية مرحلة «الأب الذي يلتهم عائلته»، سواء كانت دولة أو تنظيماً مقاوماً أو حزباً سياسياً، وذلك من خلال «طائفة بيروقراطية» (كما في مصر) أو محاصصة طوائف (لبنان) أو تنظيمات التحرير والمقاومة (فلسطين)… كلها أنظمة تبنى على «الفرد» الملهم/ الزعيم/ الإله أو نصفه/ الوسيط بين السماء والأرض، كأن الحياة أسيرة تنظيم سماوي، مقدس، تبني فيه الآلهة لتلتهم الناس في داخلها.

لهذا فالشعور بالخراب وحده، وليد شعور بالضياع في غياب الأب الأصلي أو موته السريري على مقعده/ وغياب الأب البديل الذي تطرحه انفجارات التغيير، بكل هشاشتها، وأقليتها، واقتصارها على «الاحتجاج».

الخراب ليس وحده، هناك الكشف.

ــــ 2 ــــ

هل كان يمكن كشف ما في مشروع «الصحوة الإسلامية» بكل أطيافه من الإخوان إلى «داعش»/ ومن بن لادن إلى أردوغان من عنف بربري/ وقدرة على تخريب المجتمعات، وتفريغ الإجماع العام من معانيه؟

كانت هذه المشاريع تُقدَّم على أنها «البديل» أو «الحلم» بالنسبة لمجتمعات فقدت القدرة على التواصل مع العالم إلا من جانبه الاستهلاكي، ولم يبق لها خيار إلا في أوهام العودة (إلى الخلافة أو الأمجاد أو حتى إلى الأندلس..) تقابلها في ذلك استقالة من الحياة بمعانيها الحرة، والإنسانية، وعواطفها، وأفكارها، وملذاتها، وانتظار الحياة في مكان آخر: الجنة.

هكذا سُحبت الإرادة تدريجياً من الناس، وعاشوا في بلادهم «أسرى» ينتظرون «المنقذ» أو «الملهم» أو «الإله/ الأب»… وفي الانتظارات تحوّلت الأجساد إلى هياكل خاوية تمارس وتستهلك حياتها اليومية وتمضع خرافات الانتظار وهلاوس النرجسية الجريح، وتتحرر من إنسانيتها… لم يعد هناك مجتمع ولا إجماع… لكنها حشود من مسوخ بشرية تعبد الآباء وتسير إلى الموت….

ولهذا فإن ما نعيشه حولنا جديد، ويحدث لأول مرة، لأنه ليس بحثاً عن زعامة بديلة/ أو دين جديد/ أو طائفة منافسة/ أو حملاً لبطل/ فتوة/ إله جديد في سباق السلطوية الممل والمدمر.

حتى في فلسطين المنفصلة بوضع الاحتلال، الانتفاضة الثالثة غير سابقتيها، أو تبدو كذلك في تعبيرها عن رغبة حياة، تتواصل مع «الأقلية» الهشة، وهو ما يزعج كيانات قديمة مثل «حماس» أكثر ربما ما يزعج إسرائيل، فالثالثة خروج عن سياقات آلت برحلة تحرير فلسطين إلى «الانغلاق» الإسلامي بعدما التهمت صراعات الزعماء العرب على طاقات الثورية الفلسطينية مقابل «حماس»…

الجديد هنا أن شباب «الثالثة» يخرجون عن الصورة التي حددتها سلطوية «حماس» للمقاومة، ولهذا لم تشغل الأحداث قادة حمساويين عن توجيه تعليمات للفتيات بعدم ارتداء الجينز والالتزام بالزي الشرعي (رمز حضور السلطوية).

الالتزام هو علامة اسر المقاومة «الجديدة» أياً كان الشكل الذي ستتخذه في المرحلة المقبلة… كما أن الحراك في بيروت سينشر روحاً جديدة رافضة لجوهر النظام مع رفض شخوص نفاياته الحاكمة…. وكما أنه برغم الإحباط من أقلية «الثورة» في مصر، إلا أن عملية الكشف عن طبقات العفن التي أكلت نخباً وطبقات الحكم والمعارضة بأشكالها القديمة جارية… وهنا نحتاج إلى تفكير في أن الخروج من حفرة أقامت فيها المجتمعات طويلاً ليس فيلماً قديماً ينتهي نهاية سعيدة، لكنه على الأقل مثل ألعاب البلاي ستيشن لا تنتهي، وتتصاحب فيها الإثارة مع الهزيمة، كلما قابل اللاعب وحشاً يختفي في مرحلة من مراحل اللعب.

ــــ 3 ــــ

كل ما نملكه هو اللحظة الراهنة.

.. وهذا ما تفعله «أقليات» التغيّر في «الثورة» و»الحراك» و»الانتفاضة»..

والدفاع عن هذه اللحظة الراهنة/ أي عن الحياة/ وبمنطق اللعب (الكرّ والفرّ، والتفكير اللمّاح، وحرق المراحل بما تمنحه التكنولوجيا من اتساع تضيّقه الحدود السياسية) وبأدوات تصنع مواقعها (بالمعنى الجرامشي)… اللعب بما أنه ساحات مشتركة وحالة مؤقتة للأشياء قابلة للتجدّد والتغيير لا الثبات والديمومة والتقديس.

ساعتها لن توزع العجائز قبلاتها على صورة بوتين باعتباره المنقذ/ أو الموديل/ بينما هو في رحلة إعادة الدب إلى «الكعكة» وسيكون من الممكن اكتشاف أن أردوغان الساحر لم يعد باقياً منه غير «صانع شر» محلي/ إقليمي يخرّب فرص خروج إعادة بناء هذه المجتمعات على إنسانية جديدة.

وكذلك ستكتشف أن السعودية ليست مملكة الجنة، وأنها في عز قوتها الراهنة تتعرّض لمخاطر السقوط والتفكّك ربما أكثر من مرحلة القوة المستترة.

وحتى إسرائيل التي بدت أنها استقرّت في سعادة، بالتواطؤ والاتفاق والسيطرة على خصومها، تواجه تفككاً من نوع جديد عليها.

ربما تفلت اللحظة الراهنة من القدرة على التغيير المباشر، لكن جدل الخراب والكشف سيفعل فعله، وبالتأكيد ليس في صورة نصر نهائي، أو ضربة قاضية، أو بزوغ نجم أبٍ جديد.