IMLebanon

التعليم عند شيعة لبنان من التربية الوطنية إلى تنشئة أشبال “الولاية”

 

 

 

أعلن النائب والوزير السابق أشرف ريفي خلال لقاء إعلامي في 1 حزيران 2025 عن وجوب تغيير مناهج مدارس المهدي التي تخرّج نشئاً بفكر إيراني يقوم على التبعية والولاء لأشخاص تحت إطار العصمة والمرجعية ويشجّعهم على التضحية بأنفسهم فداءً لهم، ويغذي فيهم مفاهيم مشروع تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية في لبنان، ما يخرجهم من إطار مفهوم التربية الوطنية والولاء للبنان الوطن إلى التبعية المطلقة لمشروع إقليمي يجعلهم وقوداً في حروب وصراعات لا شأن للبنان بها. كما ينتشر بين الفينة والأخرى على وسائل التواصل الاجتماعي من باب المدح أو الذم مقاطع لأطفال تلك المدارس تنشد أناشيد حزبية أو تمجيدية لمرشد الثورة الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي والأمين العام السابق لـ “حزب اللّه” السيد حسن نصرالله.

 

 

لا شكّ أن مدارس المهدي تعتبر خزّان الكوادر الفاعلة والمؤثرة في “حزب اللّه” لتشبّعها مفاهيم ورؤية مشروع تصدير الثورة منذ الصغر وتنشئتها على نهج هذا المشروع، ورغم حداثة تأسيسها منذ عام 1991 فإن المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم – مدارس المهدي أضحت كبرى المؤسسات التربوية الشيعية من حيث الفروع والاستيعاب. وإذا ما كانت هذه المدارس تصبغ بطابع شيعي بفعل النظام الطائفي المتغلغل في الحياة اللبنانية، فهل مناهجها وتوجّهاتها تنبع من العقيدة الشيعية وسردية التاريخ التربوي لشيعة لبنان؟ أم أنها تتبع منحى سردياً وأيديولوجياً وفكرياً مرتبطاً بمشروع تصدير الثورة الإسلامية في إيران ونهج الولاية و “أمة حزب اللّه”؟

 

 

لمحة عن التاريخ التربويّ لشيعة لبنان

 

بعد قرون من الاضطهاد والإنكار في العصرين المملوكي والعثماني، تنفّس شيعة لبنان الصعداء مع بداية عهد الانتداب الفرنسي والاعتراف الرسمي بالطائفة الشيعية وبحقوقها في ظلال دولة لبنان الكبير عام 1926، وتمّ فتح العديد من المدارس الرسمية في مختلف المناطق الشيعية، تفاعل هذا الأمر مع بداية ظهور المدارس الأهلية في البيئة الشيعية، كالمدرسة العاملية في رأس النبع في بيروت عام 1928، والمدرسة الجعفرية في صور التي افتتحها السيد عبد الحسين شرف الدين عام 1938، ومدارس الهدى للشيخ حبيب آل إبراهيم في بعلبك، والجمعية الخيرية في النبطية برئاسة سليمان ظاهر وجمعية الإصلاح الخيرية الإسلامية برئاسة أديب خليفة، والمدارس الشيعية الأهلية في كسروان التي أسّسها النائب والوزير أحمد الحسيني، وكانت هذه المدارس تحصل على منح ودعم من السلطات شأنها شأن المدارس الأهلية في الطوائف الأخرى.

 

 

ساهمت هذه المدارس بخفض نسبة الأمية في المناطق الشيعية، وتعريف الطلاب على مبادئ الفضيلة والقيم الروحية للمذهب الشيعي واحترام الأخلاق العامة، كما تميّزت بتفعيل شعور الانتماء للهوية الوطنية وقِيَم التنوُّع وثقافة الحريّات والعيش معاً، وتعزيز عناصر المواطنة والاعتزاز بالوطن اللبناني.

 

 

بعد استقراره في لبنان عام 1959، قام السيد موسى الصدر بافتتاح العديد من المؤسّسَات التربويَّة من خلال جمعيَّة البرّ والإحسان، كمعهد الدراسات الإسلاميَّة عام 1964، وبيت الفتاة ومدرسة الهُدى في العام نفسه، ومدرسة التمريض عام 1970. ومهنيَّة جبل عامل في بلدة بُرج الشمالي عام 1969، ورغم وجود توجّه دينيّ في تلك المؤسّسات، إلّا أنها اتّسمت برؤية ونهج وطنيين تمثّلا في اقتناع الصدر بضرورة الانخراط في النظام اللبناني والتغيير من داخله على اعتبار لبنان وطناً نهائياً لشيعة لبنان، وبعد إخفائه، أنشأت “حركة أمل” “مؤسسات أمل التربوية” التي أضحى لها حوالى ثمانية فروع في مختلف المناطق الشيعية وتستقطب حوالى 14 ألف طالب، كما أنشأت شقيقة الصدر رباب “مؤسسات الإمام الصدر” عام 1985. ورغم وجود النمطية الحزبية والسياسية في تسميات المدارس والاحتفالات والأنشطة الطلابية، حافظت تلك المؤسسات على نهج الصدر في الالتزام بلبنان وطناً نهائياً، وجسّدته في مناهجها بالتأكيد على “الوطن الصالح الخيّر”.

 

 

 

المشروع التربوي لـ “حزب اللّه”

 

مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران في شباط 1979، وبداية تصدير مشروعها إلى لبنان في كانون الثاني 1980، كان الجانب الاجتماعي والإنمائي والتربوي محط اهتمام القيّمين على المشروع، فبدأوا بفتح المدارس إن من خلال دعم جمعيات كجمعية التعليم الديني الإسلامي التي افتتحت عام 1984 أول مدرسة تابعة لـ “مدارس المصطفى”، أو من خلال مؤسسات إيرانية كمؤسسة “إمداد الإمام الخميني”، أو من خلال هبات إيرانية مباشرة كمدرسة المرتضى في بوادي بقضاء بعلبك عام 1985.

 

 

 

وبحلول مطلع التسعينات أسّس “حزب اللّه” “المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم” وحصلت على علم وخبر رقم 98 /أ د من وزير الداخلية بشارة مرهج في 17 شباط 1994، وتمّ في الآونة الأخيرة ضمّ كل المدارس التابعة لمؤسسة “شاهد” أو “الإمداد” إلى المؤسسة، وأضحت كلها باسم “مدارس المهدي”، وأضحى لها حوالى 23 فرعاً في طريق المطار ، الحدث، الغازية، كفرفيلا، الشرقية، مشغرة، صور، المجادل، عين المزراب، بنت جبيل، النبي شيت، شمسطار، عين بورضاي، بعلبك، البزالية، قم (في إيران)، الأحمدية، القطراني، الغبيري (روضة المهدي)، زقاق البلاط، الكفاءات، المعيصرة (كسروان)، رشكيدا (البترون)، الدوير، وثلاثة معاهد تقنية، كما تتبع لها جامعة المعارف التي حصلت على ترخيص من رئيس الحكومة السابق ووزير التربية آنذاك حسان دياب بالمرسوم رقم 7265 بتاريخ 22 كانون الأول 2011. أضحى عدد الطلّاب الذين يتعلّمون في هذه المدارس حوالى الخمسة وأربعين ألف طالب، وتَهْدُفُ، بحسب موقعها الإلكتروني، إلى “العناية بالناشئة، وبناء جيل رِسالي مُلتَزِم النِّظام المعياري الإسلامي للقِيَم”.

 

كما تبرز جمعية التعليم الديني التي يرأسها الأمين العام الحالي لـ “حزب اللّه” الشيخ نعيم قاسم التي تأسَّسَت بموجب علم وخبر رقم 68 /أد بتاريخ 2 تموز 1981 ، وانصبَّ نشاطُها على التدريس الدِّيني الإسلامي في المدارس والثانويّات الرسميَّة والخاصّة والاهتمام بالقرآن وإنشاء المدارس. وأنشأت الجمعيَّة تباعاً “مدارس المصطفى” في حارة حريك، بئر حسن، تحويطة الغدير، صُور، النبطيَّة والبقاع، وتُصْدِر كتاب “الإسلامُ رسالتُنا” من خلال دار “أجيال المصطفى” والذي أضحى كتاب الدين الأوحد المستعمل في المدارس الرسمية في المناطق الشيعية.

 

 

وبحسب كتاب “شِيعَة لبنان والتَّعليم في نَشأةِ نِظامٍ تَربَويّ رَديف ومَآلاتِه” الصادر عن مؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث عام 2023، فإن ما يقدّمُه المشروع التربوي لـ “حزب اللّه” يَخرُجُ تماماً عن مِظلّةِ النظام التعليمي الوطني ومؤسَّسَاته ولا يتطابَقُ مع مُخرَجاتِه لأنَّه ينفرد بالتنشئة ذات الأطُر المُغلَقَة والمُغايِرَة للاجتماع اللبناني.

 

 

ولا تتقاطع مُخْرَجات التعليم في هذه المؤسَّسَات مع غاياتِ المناهجِ في التعليم العام: فالانتماءُ الوطني يُوازيه التربية بالقُدْوَة للزعيم السياسي أو للزعيم الدِّيني، والنظام العام يُقابلُه التكليف الشرعي أو النظام الشرعي، والعيشُ المشترَك مفقودٌ أمام الإغراقِ في إظهار الثقافة الطائفيَّة في أعلى تجليّاتها والطاغية على كافة مَظاهِر الحياة الفرديَّة والعامّة ومن منظورٍ معياريّ مُتَمَحْوِرٍ حول العقيدة. وتَحفِلُ الأنشطة في مدارس “حزب اللّه” بالتعبئةِ والتنشئةِ العقائديَّة فينمو ويتعزّز شعورُ الانتماء للهويَّة الطائفيَّة والاقتداء بالولي الفقيه، وتهيئة الظروف لمجيء المهدي، وهذا ما هو بارز وواضح في كتاب بعنوان “لنكون جنوداً للمهدي (ع)” أصدرته “المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم” مع افتتاح أولى مدارس المؤسسة عام 1993، ويحتوي على “دروس في العقيدة والأخلاق والفقه والسيرة والقرآن والسياسة” وموجّه إلى تلامذة المرحلة الأولى.

 

لا شكّ أن المنهاج التربوي في تلك المؤسّسات خرج عن التوجّه التربويّ اللبناني العام، وأضحى له توجّه موازٍ، ولا شك أن هذا الاختلاف قد ظهر منذ البداية مع تأسيس تلك المدارس، وعلى سجية غيرها من الإدارات سلكت وزارة التربية سلوك السلطة اللبنانية القائمة على النأي بنفسها، فتخرجت أجيال متشبعة بمفاهيم وأفكار تتعدّى التوجّهات الوطنية اللبنانية لتصل إلى مفهوم ورؤية “أمة الولاية”. فهل وزارة التربية، التي كانت مغيبّة عن كره أو رضى، ستباشر بدراسة ومناقشة وتقييم البرامج والمخرجات التربوية في تلك المؤسسات، أم أنّ ما هو قائم سيبقى حتى ظهور “القائم”؟