قد يكون الدّوران في حلقةٍ مُفرغة هو الحركة الوحيدة الّتي تسيطر على المخزون السّياسيّ عند علويّي لبنان، وطبعاً، هي حركة بلا بركة، يفتقد فيها الجميع كاريزما الحضور الإيجابيّ. أمَّا في التّجييش السّياسيّ والطّائفيّ، فما زال بعضهم قادراً على الحضور وبقوّة؛ إذْ أنّ في الأمر منفعة شخصيّة تعود إليه وحده بتقدير خاصّ من جهةٍ ما، ولو تسبّب الأمر بكارثةٍ وطنيّةٍ، أو حتّى أدّى ذلك إلى إنهاء الوجود العلويّ في لبنان، فليس الأمر مهمّاً: المهمّ هو استثمار اللحظة والمتاجرة بها حتّى تفوق كلّ سقوف الرّبا والمقامرة..
أمَّا في ميدان التّسابق لتلبية حاجات النّاس المتضخّمة، فسياسة النّعامة النَّاعمة هي الطّاغية..
على أنّ الفراغ لا يقتصر على الجانب السّياسيّ، بل يتعدّاه إلى كلّ مفصل وناحيةٍ: سواء أكانت اجتماعيّة أم دينيّة.. ومن النّتائج المباشرة التي تحصدها المجتمعات القائمة على الأُحاديّة فكراً وممارسة: هي انعدام البدائل في لحظاتٍ تاريخيّة حاسمةٍ، وهذا ما آل إليه وضعنا في لبنان، نحن المسلمين العلويّين..
ومن المنطق القول: إنّ البدائل الحاليّة في لبنان رهينة تغييرات جذريّة في الطبقة الحاكمة منذ نشأة هذا الكيان الصغير، وربما كانت بعيدة المنال، أو هي في طور التّشكل والنمو..
وعليه، يجب الاعترافُ أنّنا قضينا أربعين سنة وأكثر، والتّعدديّة مقموعة عندنا؛ فلا صوت يعلو فوق صوت البلوك العلويّ الجامع، فكلّ تغيير هو تدمير، وكلّ تحريك للمياه الرّاكدة مؤامرة وعدوان، والأمر متروك للأحاديّة المرهوبة الّتي راحت تفتك بالواقع والمستقبل وسط تصفيق المقتولين أنفسهم. وليس التّقييم الّذي نطرحه هو شخصيّ أو سلبيّ، بل هو سياسيّ مسؤول دون أدنى شكّ..
على أنَّ الطُّروحات البديلة الّتي نشأت نكاية بهذه الأحاديّة كانت فاشلة بامتياز، فقد سقطت بعد الحملِ، أو أُجهضت في مهدها، لسببين: ذاتيّ كونها لا تمتلك رُؤية علميّة، وخارجيّ لم تلقَ المساندة الشعبيّة المطلوبة.
ومن الطبيعيّ، أنّ كلّ بديل له شروطه العلميّة والنّظريّة حتى يحقّق الهدف الّذي وُجد من أجله، وهو الخيار الثّاني المُقنِع للجمهور بما يمتلكه من مواهب، وفي حالتنا نحن، كانت زوبعةُ البدائل عقيمةَ الحلول.
حتّى وصلنا إلى عنق الزّجاجة المتورّم بالمستعصيّات السّياسيّة والاجتماعيّة الّتي يمرّ فيها كلُّ لبنان، حيث ينظر العلويّ الفقير إلى أبعد أُفقٍ يمكن أن يصل إليه ناظره، فلا يرى إلّا سواداً بسوادٍ..
والرُّؤية السّوداويّة المشتركة هذه، دون أدنى شكٍّ هي مؤلمةٌ للجميع، لكنها عند علويّي لبنان أشدّ إيلاماً وأكثر قتامةً.. وإذا وُجد حلٌّ منتظرٌ عند بقية المكونات في المدى المنظور، فلا حلّ مرتقباً عندنا..
وأيضاً، إذا فُتحت فجوات مُشرقة في جدارِ الجمود عند الآخرين، فقد سُدَّتِ الفَجواتُ عندنا منذ زمنٍ ليس بقريبٍ..
ولسنا هنا في صدد جلد التّاريخ أو زيادة مآسيه، وإنما نحن نشرح الحال المأسويّة الّتي وصلنا لها، حتى نتوصل رُبّما الى بعض الحلول المتعسّرة ولو بعد عقدٍ من الزّمن.
وإذا حاولنا اليوم البحث ضمن المجتمع العلويّ اللبنانيّ عن شخصيّة قياديّة (سياسيّة أو دينيّة) فلن تجد من يُعوَّلُ عليها، حتّى يتمّ التّشبيك معها منذ الآن، بل هناك بعض الشخصيّات الطَّموحة دينيَّاً، وبعضُ هواة السّياسة، والّذين يحاولون أن يجدوا لهم موطِئَ قدمٍ، لكنّهم للأسف أخطأوا الدّخول منذ البداية، فلن يُكتب لهم النّجاح حسبما نتوقّع؛ فقد نُقل عن اينشتاين ما معناه قوله: «الغباء هو فعل الشّيء نفسه بالأسلوب نفسه والخطوات نفسها وانتظار نتائج مختلفة»؛ فعدم التّجديد، هو تجديد للعدم عينه، الّذي يحاكي استمرار الوضع على ما هو عليه. والحلول الّتي نراها ممكنة حسب زعمنا، هي ولادة طرفٍ ثالثٍ قادر على التّشبيك بين كلّ الجزئيات المتناقضة في هذا المجتمع المكتظّ بالمتعارِضات..
هذا الطّرفُ الشَّابُّ المُدرك لحيثيّات مستقبله ضمن جواره الطرابلسيّ أوَّلاً، واندماجه الطبيعيّ ضمن نسيجه اللبنانيّ ثانياً، وامتلاكه أسلوب الخطاب مع كافة المتعارِضات الداخليّة والخارجيّة ثالثاً، قد يكون قادراً نوعاً ما على خرقِ جدار التّعطيل في الحياة السّياسيّة العلويّة في لبنان.
طبعاً، هذا الطّرفُ في حاجة إلى دعمٍ على كافة المستويّات: ماديّاً وإعلاميّاً وسّياسيّاً..
وأمَّا استمرار الجمود الّذي لم نتعب منه، فقد يهدّد الوجود كلّ الوجود، وربما يقضي عليه، لا سمح الله، بنظرة تفاؤليّة إلى مستقبل لبنان.