IMLebanon

الجزائر إلى أين؟

 

لم يكن أحد يتخيّل أن النار التي اندلعت في التونسي محمد البوعزيزي في 17 ديسمبر (كانون الأول) من عام 2010 ستتحول عاصفة تضرب شرقاً وغرباً في عدد من الدول العربية لتحوّلها دماراً وخراباً، لكنه الانسداد السياسي المطلق، الذي أسقط كل البدائل المعقولة لعملية الاستمرار والتتابع الهادئ في السلطة، الذي جعل عدداً من الدول العربية أمام خيارات ضيقة جداً ومكلفة جداً ومعقدة جداً ومدمرة جداً.

اشتراكيات مزعومة وضعت الناس أمام خيار واحد: إما الديكتاتورية وإما الذهاب إلى الفوضى، لكن من دون وجود خريطة طريق يمكن أن تنظم عملية التوصل إلى بدائل هادئة ومعقولة، وهكذا منذ انطلقت «ثورة الياسمين» في تونس وبدأ بعدها ما سمي «الربيع العربي»، تبيّن أن الياسمين والربيع يمكن أن يحملا كثيراً من الدماء والدمار.

ولأن العاصفة تهبّ مرتين وربما أكثر، ها هي النيران التي هبت شرقاً وطاولت عدداً من الدول العربية، سوريا والعراق واليمن، تهب الآن غرباً لتكمل سعيرها الذي لم يتوقف بعد في ليبيا وتهدد الجزائر والسودان، رغم ما تقدمه من مشاهد القتل والدمار في سوريا واليمن والعراق من دروس قاسية لا بل مرعبة، يفترض أن تضع الجزائريين والليبيين على طريق البحث المسؤول والعاقل، عن عملية انتقال سياسي تفتح الأبواب على وضع بدائل قانونية ودستورية متفق عليها حزبياً وشعبياً، تضمن مستقبلاً يخلو من كل هذه الفوضى المدمرة، ويؤسس لمرحلة جديدة تنقل هذه الدول من مستنقع الصراع إلى طريق النمو والتقدم والرفاه!

لا داعي قطعاً للحديث عن سوريا التي ما زالت تبحث عن بديل من الديكتاتورية والدمار، ولا عن اليمن الذي يحاول الخروج من فوضى الانقلاب الحوثي المدعوم إيرانياً، لإعادة إرساء قواعد الشرعية، التي كان يمكن أن تستقر، لو سلكت في حينه مبادرة «الحل الخليجي» طريقها إلى التنفيذ!

الجزائر ظلّت تحت حكم الرجل الواحد عشرين عاماً، كان عبد العزيز بوتفليقة الذي سبق له أن أنهى حرباً أهلية استمرت عشرة أعوام، عبر ما سمي في حينه مبادرة «الوئام والوفاق»، مريضاً ينتقل على كرسي مدولب منذ عام 2013، ورغم أنه كان يسعى لولاية خامسة استقال بعد سلسلة هائلة من المظاهرات الشعبية المليونية، لكن الجزائر لم تحصل على البديل بعد، وقياساً بتعقيدات الوضع الراهن فيها ومع استمرار المظاهرات، ليس كثيراً التخوّف من أن تجلس الجزائر تكراراً على كرسي مدولب، إذا تفجّرت الأوضاع فيها لا سمح الله!

لا يقف المشهد السياسي الجزائري عند هذه الحدود والملامح الظاهرة، فالأخبار توحي بأن هناك أشباحاً قد تتحرك وراء تطورات الوضع، وهي التي كانت تتولى السلطة عملياً عندما كان بوتفليقة في كرسيه، بعدما أصيب بجلطة دماغية عام 2013، وهو ما يثير شكوك المتظاهرين الفعلية في كلام بن صالح عن الجمعية الوطنية والانتخابات!

ولعل ما يعمّق من مخاوف المتظاهرين، البيان الذي كان قد قرأه نائب وزير الدفاع رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح قبل أسبوعين، وتحدث فيه عن «عصابة تحيك مؤامرة تجمع أطرافاً ذات نيات سيئة تعمل على مخطط يهدف إلى ضرب مصداقية الجيش»، الذي يكرر منذ اندلاع المظاهرات أنه حريص على حفظ الأمن والاستقرار في البلاد!

زيادة في تعميق هذه المخاوف الشعبية التي أججت المظاهرات، كشف محسن بلعباس رئيس «التجمع من أجل الديمقراطية والثقافة»، أن المقصود بالعصابة واجتماعها المشبوه، أنها ضمّت شقيق بوتفليقة سعيد الذي كان يسيطر على القرار السياسي منذ مرض أخيه، وكذلك الرئيس السابق للمخابرات «الجنرال توفيق»، واسمه الحقيقي محمد مدين، وهو الرجل القوي الذي يسميه الجزائريون «صانع الرؤساء»، وأيضاً رئيس الاستخبارات الحالي بشير طرطاق، وكذلك الرئيس السابق اليمين زروال الذي تردد أنه انسحب من الاجتماع، الذي حضره أيضاً أفراد من المخابرات الفرنسية!

طبعاً كان الإعلان عن اجتماع يضم هده الشخصيات كافياً لتأجيج المظاهرات في حين حافظ الجيش على جهوزيته المعلنة تكراراً، وعن موقفه الداعم للأمن والاستقرار بما يعني أنه في وضع المستعد لوضع يده لمنع الفوضى، التي زاد من احتمالات التخوف من وقوعها، أن الرجل الثاني في «جبهة الإنقاذ الإسلامية» المحظورة، علي بلحاج يحاول الآن أن يركب موجة المظاهرات، على غرار ما فعله سلفه عباس مدني، الذي يعتبره الجزائريون العقل المدبّر لفتنة «العشرية السوداء» التي سبق أن قتلت أكثر من مائتي ألف جزائري في حرب أهلية عرفت الكثير من المجازر ووقعت عام 1990 واستمرت عشرة أعوام.

المظاهرات الجزائرية تستمر وسط تداخل خطير محيّر وغامض في المواقف، بين إعلانات الرئيس الانتقالي عبد القادر بن صالح وحديثه عن التحضير للانتخابات النزيهة لكن مشكوك في حصولها، مع حراك الطاقم الذي يحكم من وراء بوتفليقة، الذي يديره شقيقه سعيد وقد انضم إليه الآن «الجنرال توفيق»، في وقت يحاول الإسلاميون عبر «جبهة الإنقاذ» المحظورة الدخول على الخط، ولهذا ليس من المبالغة زيادة التخّوف من أن تؤدي هذه التقاطعات إلى انفجار قد يضع الجزائر أيضاً في كرسي مدولب كالذي يجلس عليه بوتفليقة لا سمح الله تكراراً!

والخطير أنه في حين يبرز الدور المتعاظم للجيش الجزائري، الذي يتخذ وضعية المراقب المستعد للتدخل، يحس الطاقم المحيط ببوتفليقة بقيادة سعيد، أنه بات مستهدفاً مع ثلة واسعة من رجال الأعمال النافذين، الذين راكموا ثروات ضخمة، وربما لهذا تتزايد التكهنات في الشارع الجزائري، بأن البطانة الرئاسية صنعت قصة الرئاسة الانتقالية والجبهة الوطنية تحضيراً للانتخابات، في وقت راحت تسعى وراء جدران مغلقة، إلى ترتيب عملية إرساء للحكم تبقيها في مراكز القوة والسلطة، وهي تحاول في هذا السياق، الاستعانة بالمخابرات في مواجهة الجيش، ما يزيد طبعاً الأمور خطورة وتعقيداً، لأن الجزائر مرجل يغلي وبلد مسدود في وجه أزمة متعددة الأوجه!