الحدثُ السياسي، بل اللبناني الأهمّ، الذي يُفْترَضُ أن يكون وطنياً حصراً، بلا ورقةٍ أميركية ولا ردودٍ لبنانية ولا مرجعيات دولية ترتقي إلى مستوى مجلس الأمن.
فماذا تُرانا نكتب عن هذا الحدث الواضح الغامض المتعّلق بحصريّةِ السلاح وقرار الحرب والسلم وخطاب القَسَم والبيان الوزاري الذي أقرَّهُ النواب جميعاً بالأيدي المرفوعة والرؤوس المنْخَفضَة، وكأنّما هذا المسلسل ليس لَهُ آخر، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
أنا من جهتي، استمعتُ جيداً إلى الكلام الذي أدلى به الموفدُ الأميركي الزحلاوي اللبناني الأصل: توم برّاك على أبواب القصور، والذي تراوح من جهةٍ، بين المواعظ والوصايا العشر، والتحذير والتهويل من جهةٍ ثانية.
وبقدر ما أفهم من الكلام المترجم لم أستطع التمييز بين الشيءِ وضدَّه، وبين الوعيد والنقيض، فالدبلوماسي العريق يتحلّى بدبلوماسيةٍ مرِنَة ويُخفي ترجمةَ القاموس الزحلاوي باللغة الإنكليزية، وهو يمثّلُ الشيطان الأكبر ويتكلّمُ بلغة الملائكة.
ولا أظنُّ أنّ المسؤولين اللبنانيِّين قد فهموا ما يُريده الرئيس الأميركي دونالد ترامب من وراء موفدهِ توم برّاك، وما يريده بنيامين نتنياهو من وراء الرئيس ترامب.
ولكنّني أعرف أنَّ الموفد الأميركي سيحمل معه الأفكار اللبنانية إلى اللقاء الذي يجمع الرئيس ترامب مع نتنياهو في واشطن، ونعرف أنَّه كلَّما كان لقاءٌ بينهما في البيت الأبيض يكون هناك يومٌ أسود في الشرق الأوسط.
والأخطر في هذا، أنّ الموفد الأميركي سيعود إلى لبنان بعد أسبوعَين، وهي المدَّة التي حدَّدها الرئيس ترامب لاستئناف المفاوضات الأميركية – الإيرانية والتي بعدها راحَ يشنُّ هجوماً صاروخياً على طهران.
لا تعنيني إزدواجيَّةُ تصريحات «المرشد» الأميركي برّاك: «بأنْ التزموا إتفاق الطائف، كنتم سويسرا الشرق فاستفيدوا من الفرصةِ الأخيرة، إنَّ أمام «حزب الله» مستقبلاً واعداً ولكنّه مشكلة لبنانية عليكم حلّها، لبنان وطنٌ عظيم واللبنانيّون شعبٌ عظيم» كأنّما يذكّرنا بالرئيس ميشال عون.
وفي المقابل، يحذّرنا «من التخلّف عن ركْب متغيّرات الشرق الأوسط، وفي الجواب عن الضمانات التي يطلبها لبنان قال: «لا أحد يمكنه تأكيد عدم حلول حرب في لبنان، نحن نمشي على الماء».
حين نمشي مع الحرب على الماء تقتضي الحكمةُ أن نتحاشى الغرق، وفي الخيار بين النصرِ والشهادة لا بدَّ من التبصُّر لإنقاذِ الشهادةِ والنصر.
في ظلّ انعدام التكافؤ العسكري فإنَّ المواجهة تكمنُ في كينونةِ لبنان، تاريخ لبنان مقاومة، وحدة لبنان وصيغةُ لبنان مقاومة، الحضارةُ والحريةُ والثقافةُ والفكر والفن والإعلام والأرض المخضَّبة بدمِ الشهادة، هذه كلّها مقاومة.
لا … هذا ليس شعراً.
أحداثُ لبنان التاريخية تختصرُ صمودَ لبنان، وهناك، عند مصبِّ نهر الكلب نقوشٌ وأنصابٌ تستحضرُ فتوحات الفاتحين: من المصريّين والأشوريّين والبابليّين واليونان واللّاتين والعرب والإنكليز والفرنسيِّين، هذه الجحافلُ كلُّها حلَّتْ عندنا ورحلت، احتلَّتْ ودُحِرتْ بقـوِّة مجدِ لبنان لا بقوةِ سلاحهِ.
ومن النقوش التي تركها الملك البابلي «نبوخذنصَّر» على نهر الكلب تقول: «نظَّمتُ حملةً عسكرية ضدّ لبنان وعلى كل طامعٍ بأرضِ لبنان أن يتعلّم فلا تحدِّثه نفسهُ بالإعتداء على أهلهِ وإني أقمتُ هنا تمثالي ليشهدَ على ذلك» .
نعم… وفي معزلٍ عن الثرثرة السياسية، من المفيد جداً أن نذكِّر بهذه الحقائق التاريخية التي تشكِّل أولاً: الردَّ الأفضل على الورقة الأميركية وسائر الأوراق والحقائب الدبلوماسية المفخَّخة، وهي حقائق نسوقها ثانياً إلى اللبنانيِّين الذين يجهلون تاريخ لبنان فوق جهلِ الجاهلين.