على وقع الأجواء المتشنّجة التي رافقت زيارة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، وما تلاها من رسائل سياسية متبادلة، يستعدّ لبنان لاستقبال الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك، ترافقه المتحدثة السابقة باسم وزارة الخارجية الأميركية مورغان أورتاغوس، التي مُنحت صفة دبلوماسية كمساعدة أو نائبة لبرّاك في الملف اللبناني. وقد تلقّى المسؤولون اللبنانيون إشعاراً رسمياً بهذه الزيارة، وتم تحديد مواعيد رسمية لهما يوم الاثنين.
هذه الزيارة تأتي في توقيت حسّاس للغاية، حيث تشهد الساحة اللبنانية تقاطعاً بين الاستحقاقات الداخلية والضغوط الإقليمية والدولية. وتشير المعلومات المتوافرة إلى أن برّاك وأورتاغوس سيحملان معهما ضمانات أميركية بضغط واشنطن على إسرائيل للانسحاب من النقاط التي تحتلها في الجنوب اللبناني، في خطوة يُراد منها إعطاء دفع للموقف الرسمي اللبناني وتعزيز الثقة بالحكومة. كما سيعلنان ثناءً علنياً على القرار الحكومي الأخير، وسيبديان موقفاً إيجابياً على الصعيدين الأمني والاقتصادي.
فعلى المستوى الأمني، سيدعم الوفد الأميركي خطة الجيش اللبناني المرتقبة لبسط سيادة الدولة على كامل أراضيها، وهو دعم يندرج ضمن المساعي الدولية لتقوية مؤسسات الدولة اللبنانية في مواجهة التحدّيات الأمنية. أما على المستوى الاقتصادي، فقد تترافق الزيارة مع وعود بفتح أبواب القروض والمساعدات الدولية، بهدف دعم قدرة الحكومة على مواجهة أزمتها المالية والاقتصادية الخانقة.
لكن خلف هذه الإشارات الإيجابية، هناك ملف شائك لا يمكن تجاهله: مسألة سلاح حزب الله. إذ من المتوقع أن يردّ الموفد الأميركي على مواقف الشيخ نعيم قاسم، ولا سيما إصراره على رفض تسليم السلاح للدولة. وبحسب المعطيات، سيشدّد برّاك على أن المهل الزمنية تمثل جوهر أي اتفاق، باعتبار أن الورقة الأميركية التي طُرحت على الحكومة اللبنانية تضمنت جدولاً زمنياً من أربع مراحل، تتراوح مدتها الإجمالية بين أسبوعين وأربعة أشهر. ففي السابع من آب 2025، وافقت الحكومة اللبنانية على الأهداف الواردة في الورقة الأميركية، وكلّفت الجيش اللبناني إعداد خطة تنفيذية لحصر السلاح قبل نهاية العام. ومن المقرر أن تُعرض هذه الخطة على مجلس الوزراء في مطلع الشهر القادم لمناقشتها وإقرارها.
إلّا أن هذه الخطة التنفيذية تواجه عقبات سياسية كبرى، إذ يعتبر حزب الله أن الموافقة عليها وعلى أهداف الورقة الأميركية تشكّل «مخالفة ميثاقية صريحة» وتمثل «ضربة لاتفاق الطائف» الذي نص على حق لبنان في الدفاع عن نفسه. ويحذّر الحزب من أن المضي قدماً في الخطة قد يدفعه إلى التصعيد كالانسحاب من الحكومة مع الوزراء الشيعة الآخرين، ما يفقدها ميثاقيتها ويعطّل عملها عملاً بأحكام الفقرة «ي» من مقدمة الدستور والمادة 95 من الدستور اللبناني، تماماً كما حدث عام 2008 عندما انسحب الحزب وحلفاؤه احتجاجاً على قرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بتفكيك شبكة اتصالاته الخاصة.
ورغم محاولات برّاك طمأنة الحزب بأن نزع السلاح لا يستهدف إقصائه سياسياً وأن له مستقبلاً في الحياة السياسية اللبنانية، إلّا أن موقف الحزب مدعوم بوضوح من طهران التي ترى في سلاحه ضمانة لمعادلة الردع الإقليمي. وبالتالي، يقف لبنان اليوم أمام مفترق طرق حادّ: إما المضي في تنفيذ التعهدات الأميركية وما قد يترتب عليها من مواجهة مباشرة مع الحزب ووضع الجيش في صراع داخلي محفوف بالمخاطر، أو التراجع عن الالتزامات، ما قد يؤدي إلى أزمة مع واشنطن وربما إلى تصعيد إسرائيلي جديد.
تدرك غالبية القوى السياسية اللبنانية أن أي مواجهة داخلية مع حزب الله، في ظل التوتر الإقليمي والمخاطر الأمنية، قد تعيد شبح الحرب الأهلية وتفتح الباب أمام انهيار أمني شامل. لكن في المقابل، ثمة من يرى أن الوقت قد حان لبناء دولة قوية قادرة على احتكار السلاح، خصوصاً بعد أن تلقّى الحزب ضربات أضعفت جزءاً من قدراته العسكرية. غير أن الرهان على نزع سلاح الحزب بالكامل يبدو محفوفاً بالمخاطر، خاصة في ظل البيئة الطائفية المعقّدة والتدخّلات الإقليمية.
لذلك، يبقى الخيار الأكثر واقعية هو السعي إلى تفاهمات سياسية داخلية، ولو كانت صعبة ومؤلمة، توازن بين المطالب الأميركية والتحدّيات الداخلية، يضمن عدم إقحام الجيش اللبناني في مواجهات ذات طابع طائفي. فالتجربة اللبنانية أثبتت أن الاستقرار الهش لا يحتمل صدامات داخلية، وأن معالجة الملفات الحسّاسة، وفي مقدمتها ملف السلاح، تتطلّب حواراً وطنياً شاملاً يشارك فيه الجميع.
في المحصلة، لبنان أمام استحقاق قد يكون الأصعب منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990. فالضغوط الدولية لا تمنح الحكومة ترف المماطلة، والتعقيدات الداخلية تجعل أي خطوة ناقصة مكلفة. ومن هنا، فإن قدرة لبنان على اجتياز هذه المرحلة تتوقف على مدى حكمة قيادته السياسية في الموازنة بين متطلبات المجتمع الدولي ومصالحه الوطنية العليا، وبين الحفاظ على السلم الأهلي وعدم التفريط بسيادة الدولة. إنها معادلة دقيقة، والفشل في إدارتها قد يفتح الباب على سيناريوهات لا يرغب أحد في مواجهتها.
وفي ضوء هذا المشهد المعقّد، لو كنتُ في موقع دولة الرئيس نواف سلام، لدعوتُ فوراً إلى طاولة حوار وطني تجمع مختلف القوى والأحزاب اللبنانية، من دون استثناء، لفتح نقاش صريح ومسؤول حول القضايا الخلافية، وفي مقدمتها ملف السلاح ومستقبل الدولة. إن مثل هذا الحوار، القائم على الاعتراف المتبادل بالهواجس والمصالح، كفيل بتخفيف حدّة الاحتقان، وتوسيع مساحة التفاهم، وتحصين السلم الأهلي، وصون العيش المشترك الذي يشكّل جوهر الهوية اللبنانية. فلبنان لا يملك ترف المغامرة بوحدته، والحوار يبقى دائماً الطريق الأضمن لتجاوز الأزمات وتحويل التحدّيات إلى فرص لبناء دولة قوية وعادلة.