IMLebanon

التعاطف الأميركي مع لبنان يحل مكانه تعاطف آسيوي

التعاطف الأميركي مع لبنان  يحل مكانه تعاطف آسيوي

جمهورية من دون ضوابط دستورية

وتحذير من خسارة ٨ آذار فرصة لا تتكرر

تساءل ديبلوماسي لبناني عريق: هل بدأت شمس الاغتراب اللبناني تغطس في المحيطات، أم أخذت ترحل من الغرب، لتعود الى الشرق، فتسكن أحلامهم فيه، بعدما اغتربت عنه دهوراً؟

كان جبران خليل جبران يقول في البدايات وقبل أن يغترب في الولايات المتحدة وفرنسا أو يجول في ايطاليا وانكلترا، إن منزله في لبنان، يقول له: لا تغادرني. هنا يسكن ماضيك، والطريق يقول لي: تعالَ، اتبعني، فأنا مستقبلك، وأنا أقول لمنزلي، كما للطريق، لا ماضي لي ولا مستقبل. إذا بقيت هنا لي رغبة في الرحيل، ولو بقيت.

واذا رحلت، فتبقى لي رغبة بالبقاء ولو رحلت. وحده الحب والموت يغيران الأشياء.

هل يعتقدنَّ أحد، أن لبنان، الذي يكاد يتحول الى بلد للمهجرين من بلادهم اليه، يمكن أن يحافظ على بلد الأرز، ويحفظ القيم الخلقية التي عاشت مع جبران خليل جبران وميخائيل نعيمه وتوفيق يوسف عواد وايليا أبو ماضي؟

وهل في مصلحة لبنان أن يفيض علينا أغنياء العالم بأموالهم، مقابل الاحتفاظ في بلادنا بالمهاجرين والمهجرين، وفيه قرابة نصف مليون فلسطيني في المخيمات ومليون ونصف مليون سوري من دون مخيمات؟

اللبنانيون، لا يعرفون بعد، كيف يهتدون الى مستقبل مشرف، وهم يعيشون في جمهورية مضى عليها عامان، وهي من دون رئيس جمهورية.

في آخر اجتماع للحكومة، كاد الوزراء أن يلتهموا بعضهم بعضاً، وهم غارقون في صراع على التعيينات الديبلوماسية والادارية، وكأنَّ جماعة السلطة يريدون أن يتسلّط كل فريق على الفريق الآخر، وأن يحتكر بعضهم الوظائف المدهنة كما في تعابير الأخوين رحباني، وأن يرضخوا جميعاً للأطماع الطائفية، ولكل طائفة في لبنان هوس بالوظائف، مسيحيين ومسلمين.

ويُروى أن رئيس مجلس النواب نبيه بري تمنى على حزب الله، حليفه الأكبر في الثنائية الشيعية، أن يقبلوا بعرض زعيم الطائفة السنية سعد الحريري، القبول بالنزول الى البرلمان، وانتخاب سليمان فرنجيه، وهو من ٨ آذار، رئيساً للبلاد، بدلاً من الدوران في حلقة مفرغة عنوانها: العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، أو بقاء الجمهورية من دون رئيس.

طبعاً، فقد رئيس البرلمان رباطة جأشه، عندما اعترض وزراء العماد عون على مواقف وزير المال علي حسن خليل ووزير الأشغال العامة غازي زعيتر، واتهامهما بأنهما يمعنان في تعيينات وزارية لصالح الطائفة الشيعية على حساب التوازنات بين المسيحيين والمسلمين، في حين يتمسك أركان الطائفة السنية بأبناء طوائفهم في ترتيب أمور المساكنة، في حين يتمسك وزير الخارجية جبران باسيل بحقوق المسيحيين.

وجد الرئيس نبيه بري أن على ٨ آذار أن يتلقفوا اقتراح الرئيس سعد الحريري، وينزلوا الى البرلمان، ويؤمّنوا نصاب الثلثين، وليفز في الرئاسة من يفوز، والجميع سيكونون مع الفائز، والا، فإن التمسك بالرئيس ميشال عون، سيجعلهم يخسرون فرصة قد لا تتكرر.

الصراع بات قوياً وحاداً بين حزب الله وحركة أمل، لكن اجتماع عناصر من الفئتين في مقر الرئاسة الثانية، يحافظ على جزئية في التفاهم بين الطائفتين السنية والشيعية.

هل تكون الجلسة المقبلة بعد ثلاثة أيام في مجلس النواب فرصة لمرور أفكار نبيه بري، وهي مؤيدة من حليفه وليد جنبلاط، ومن حلفاء سعد الحريري في ١٤ آذار، من القوى المسيحية، أم أن ظهور التباين في المواقف عند حزب الكتائب قد يعيد النظر في الحل المفقود؟

والجواب على هذا التساؤل صعب، لأن الخلافات تتجاوز التفاهمات، ولأن للكتائب وللشيخ بطرس حرب والوزير ميشال فرعون آراء محددة على هذا الصعيد.

وهذا يعني بقاء البلاد سنوات أو أشهراً بلا رئيس للبلاد. وثمة فريق يقول إن وجود رئيس للبلاد يمهد لحلول تشمل القضايا العالقة، ولا سيما استمرار السلطة السياسية في قيادة الجمهورية، سواء عبر أحد المرشحين الأساسيين العماد عون والنائب فرنجيه، أو اللجوء الى مرشح ثالث من ثلاثة: قائد الجيش العماد جان قهوجي، كما حصل قبلاً مع العماد اميل لحود، والعماد ميشال سليمان، أو مع الوزير السابق جان عبيد، أو مع حاكم مصرف لبنان الحالي.

إلا أن غروب شمس القوى الكبرى في العالم، عاد الى البروز، بعد الانسحاب الروسي من سوريا، والاتفاق الروسي – الأميركي على جعل الحل المتوقع أو المطلوب لسوريا، مرحباً به، على الرغم من التباينات الدولية حول مدة استمرار الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية في التوفيق بين المعارضة والنظام، وانحسار نفوذ منظمة داعش في العراق وسوريا ولبنان.

الا ان السفير سمير شما، يورد في كتاب، معلومات تفيد بأن غروب الأميركان والأوروبيين عن سماء الانفراج، يقابله شروق نجم دول جنوب شرق آسيا على لبنان الغارق في بحار الأزمات.

وتبدو اليابان، وهي من أكبر وأغنى الجزر في المحيط الهادئ، نجمة الحقبة المقبلة، لأنها تشكل مع لبنان أنموذجاً للحياة الفضلى، على الرغم مما تكبدته في الحرب العالمية الثانية.

وهم أم حقيقة ؟

ويقول سمير شما في كتابه اليابان، أميركا، ونحن إن اليابان جزيرة في الجغرافيا، وجزيرة في أقاصي القارة الآسيوية، وصارت عقلية أهل الجزر جزءاً منها لا يتجزأ، وما زاد في عزلتها الجغرافية هو عزلتها الطوعية لأكثر من قرنين ١٦٣٩ – ١٨٥٤.

واليابانيون يرون في وطنهم ليس أرضاً وجبالاً وماء، إنها المرقد المقدس لآلهتهم ترتاح في حناياها روح السلف الخالد. وهذا ما زاد في قسوة الثقافة لمن هاجر من اليابان، خارج بلدهم المقدس.

ويرى مايك مانسفيلد أن الروح الانعزالية ما زالت حتى اليوم ضاربة في جذور النفس اليابانية ومرافقة لنزعة انفتاحها على العالم كما هي من ثوابت النفس الأميركية. أمة محاطة بالمياه من كل صوب انعزلت زمناً عن العالم قبل الإقدام على الهجرة.

والإبحار! كأنه قدر الذين ولدوا على هذا الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. والإبحار فيه أقل خطراً من ذاك المحيط المواجه لليابان. وللتقارب مع جيرانهم المتوسطيين وغير شعوب استخدم اللبنانيون الأبجدية بهدف تكثيف تجارتهم فكانوا تجاراً بامتياز وأكثر براعة من جيرانهم الإغريق في هذا الشأن وتقاسما مراكز النفوذ في البحر المتوسط.

وكتب ميشال شيحا نحن أمة المفطورين على السفر. موجودون في كل مكان. وهذا أمر ينفرد به لبنان في نطاق العالم العربي نفسه. العراقي والمصري والسعودي واليمني لا يسافرون. فإن فعلوا كان مردّ ذلك الى تشبّههم باللبنانيين شأنهم في ذلك شأن السوري والأردني. الأفق عندنا حاجة والتغرُّب ضرورة. نحن أشباه لتلك الطيور المهاجرة التي ترحل في كل فصل من قارة الى أخرى، لا بد لنا من خوض العباب.

خلال لقاء في دار سفارة لبنان لدى اليابان سأل السفير شمّا البروفسور أوميهارا : من أنتم أيها اليابانيون، وكيف تحددون – تاريخياً – هوية عملكم؟ وأجابه: في لاوعينا وذاكرتنا نعتبر أنفسنا أمة مزارعين، نحن طلاب جدد في عالم الصناعة والتكنولوجيا، حديثو صناعة اذا صحّ التعبير. أعطاني مثلاً معبّرا: ثمة وجه شبه بين اللبنانيين واليابانيين في اضطرارهم للهجرة أواخر القرن التاسع عشر الى الأميركتين بسبب ضيق رقعة بلادنا ومواردنا الطبيعية الشحيحة وبحثاً عن مورد رزق. أما الفرق الجوهري فهو أننا صدّرنا الى أميركا اللاتينية خصوصاً مزارعين. أما أنتم اللبنانيون فقد صدّرتم – بسبب إرثكم الفينيقي – تجاراً. وكتب بوروما: حتى في الأزمنة الحديثة وفي وجوه كثيرة يستمر اليابانيون في الاعتقاد أنهم أمة مزارعين.

هؤلاء وجدوا أنفسهم عمالاً مهاجرين في غابات الأمازون ومجاهل البيرو وبوليفيا والباراغواي التي تفتقر للحد الأدنى من سبل العيش.

ويعتبر كثيرون أن الأتراك وتسلطهم وظلمهم واستبدادهم عوامل جعلت اللبنانيين يتربّون وينشأون على الخوف. هو هذا اللبناني الذي شد الرحال الى بلاد الله الواسعة، حمل معه فقره وتعبه النفسي وارتمى في المجهول وأدرك حقيقة الذهاب الى أميركا. وهذه قد تكون أحياناً البرازيل والمكسيك. إنها عنده بشكل مبسّط بلاد برا كما دعوها.

هذا اللبناني: زوّادته الفكرية تكاد لا تُذكر. لا معرفة البتة بلغة البلاد التي يقصدها، وبقي على تجاف مع هذه اللغة، وشوّه القليل مما تعلّمه من لغة Cervantes نحر اللغة الاسبانية، كما كتب سليم عبو كمثل واقع وتجربة الجالية الأرمنية لدى وصولها الى لبنان، وعلاقاتها الصعبة مع لغة الضاد.

صدمة ثقافية اجتماعية تعرّض لها هؤلاء المهاجرون الجدد: أوضاعهم المادية البائسة، نسق معيشتهم، لغتهم المشوّهة. وبخلاف المهاجرين الوافدين من الدول الغربية وصل اللبنانيون وهم يحملون جوازات سفر تركية فدعوهم Turcos ولزمتهم هذه التسمية زمناً طويلاً، وغيّرت هويتهم الحقيقية وربطتهم بدولة هربو من ظلمها وهي ذات وقع غير مستحب في الأميركتين، غير وقع جوازات سفر قادمين من دول متوسطية وأوروبية. من طرائف تتريك المهاجرين اللبنانيين الأوائل ما حدّثني عنه سفير تركيا لدى تشيلي بأنه قام بزيارة مجاملة لحاكم احدى المقاطعات التشيلية الذي أبلغه: إن مهمات ومسؤوليات كبيرة في انتظارك نظراً لتواجد جالية عربية – تشيلية من أصل… تركي.

ويقول السفير شمّا في كتابه إنه في لقاء تم في الريو دي جانيرو عند أحد اللبنانيين أبلغني

وزير برازيلي أن غالبية صداقات اللبنانيين بنوها في… المطبخ اللبناني. قد ينسون الكثير من تقاليدهم ولا يعرفون من العربية الا القليل القليل، أما أطايب المأكولات اللبنانية فهي الحضور الدائم والمستمر معهم، إنها المفتاح الى القلوب. أليست هذه اللغة عالمية وجسر عبور الى نفوس الغير والتقارب الانساني معهم؟ عندما قلق لويس الثامن عشر وتساءل عما اذا كان لتاليران مساعدون أكفياء وعما اذا كان في حاجة الى معاونين اضافيين لمهمته الصعبة في مؤتمر فيينا التاريخي، شكره الأمير قائلاً: يا سيدي أفضّل أن ترسل لي طباخين اضافيين ماهرين لا دبلوماسيين اصافيين.

في بيت كامل، مكسيكو العاصمة، عتاد رئيس جمهورية المكسيك آنذاك، أدولفو لويس ماتيوس على المجيء الى البيت المفتوح يوم الخميس ودونما حاجة الى دعوة. ولما دشّن هذا الرئيس النادي اللبناني في العاصمة أطلق آيته الشهيرة التي كتبت على مدخل النادي: مَنْ ليس له صديق لبناني فليبحث عنه.

ويتابع السفير شمّا: لقد أبلغني رئيس جمهورية التشيلي إدواردو فْراي (Eduardo Frei) أن من بين القلة الذين بقيوا أوفياء لوالده رئيس الجمهورية الأسبق ولعائلته تشيليان من أصل لبناني: كارلوس مسعد وإدموندو بارس جمعه وزيرا الصحة والدفاع.

الكرم والضيافة والوفاء والمطبخ اللبناني، وما يدعونه فنّ الطهي؟ ذكرت جريدة نيويورك تايمز: ان رئيس حكومة كندا السابق بيار اليوت ترودو قد احتفل وعائلته بآخر عيد ميلاده، وقبيل غيابه، في مطعم لبناني في مونريال.

عندما يتحدث اليابانيون عن حضورهم في العالم وفي أقصى أقاصيه يشيرون الى انتاجهم الصناعي والتكنولوجي، ولكنهم يشيرون ويتباهون خاصة بالمطاعم اليابانية التي اجتاحت العالم. يرون أنها تمثل حقيقتهم الأصلية وأذواقهم وإقبال الناس وتقديرها لأحد مظاهر وطريقة عيشهم وفنّ مأكولاتهم.

وقبيل هجرتهم اليها تصوّر اليابانيون أنها الجنّة فوجدوها آنئذٍ بين الدول الأكثر تخلفاً في أميركا اللاتينية. لقيوا التشجيع ورعاية دكتاتور جمهورية الدومينيك تروخيّو وإثر اغتياله في العام ١٩٦١ انقلب الحكم على سياسة السلف وأظهر مشاعر عدائية ضد الجالية اليابانية.

لم تكن هذه المشاعر حركة هستيرية عابرة، بل استندت الى أرضية ايديولوجية حقيقية تعتمد سياسة إبعاد الآسيويين، كما كتبت أندو. هذه العلاقات التي شابتها توترات بين حكومات أميركا اللاتينية والجاليات كجماعة منعزلة تحول دون اندماجها صعوبات وحواجز ثقافية. تضاف اليها غيرة وحساسية الكيان الأصليين وقد رأوا فيهم منافسين خطرين، فبرزت تجاههم مشاعر الكراهية وظهر تعبير خطر الأسينة وكثر الحديث عن الإمبريالية اليابانية ونزعتها التوسعية والتي تجلّت في احتلال اليابان للعديد من جيرانها الآسيويين وتنامي حضور جالياتها في اميركا اللاتينية وما قد تجرّه من مخاطر. تجاوباً مع هذه المشاعر ورغبة بتهدئتها والحد من غلوائها اتخذت حكومات لاتينو اميركية تدابير صارمة في حق الجالية اليابانية.

كانت اليابان في عّز طفرتها الاقتصادية. العديد من البرازيليين – اليابانيين في مستوطنة Guatapara وغيرها من أماكن تجمّعهم رغبوا في الانتقال الى الوطن الأم بحثاً عن مجالات عمل. رفاقهم وجيرانهم البرازيليون رجوهم بأن لا يغادروا وإن غادروا بأن لا تطول غيبتهم ويعودوا الى أحضان البرازيل. هؤلاء البرازيليون أغرورقت عيونهم بالدموع لوداع شركائهم في الوطن.

طبائع الشعوب ومظاهر التقلّبات التاريخية لأمزجتها؟! وأهل اميركا اللاتينية لا يحرّكهم يباس منطق ولا العقل وحساباته ومصالحه فحسب، بل المزاج الإنساني المتقلب. طبيعة علاقتهم بجيرانهم الأميركيين، بالولايات المتحدة: يوم عليها فتعلو صرخة غضبهم Gringo أي الأميركي البشع عد الى بيتك – وطنك. ويوم معها صرختان: Gringo رجوناك ان تعود إلينا وGringo رجوناك أن تأخذنا معك.

وما زاد في ارتياح اليابانيين في أميركا اللاتينية ان حكوماتها، وبعد اعتمادها الليبرالية الاقتصادية، باتت ترحّب أطيب ترحيب بالإستثمارات اليابانية في بلادها مؤمّنة بخبرة الشركات اليابانية وخلقية العمل التي تميّزها، فعهدت اليها بالكثير من البُنى التحتية والقطاعات الإنتاجية.

وخلص السفير شمّا الى القول انه لم تبخل اليابان بالمساعدات والهبات للدول التي تعاطفت معها أيام الفقر والضيق وخاصة لتلك التي استقبلت مهاجريها بدايات القرن الماضي. وعندما انتقلتُ الى الباراغواي لتمثيل لبنان في احتفال تنصيب رئيس جمهوريتها، أبلغني السفير المرافق ألخندرو فرانكو Alejandro Franco سفيرها لدى لبنان ووزير خارجيتها لاحقاً أن المبنى الفخم الذي تجري فيه الاحتفالات هو هبة من الحكومة اليابانية تعبيراً عن تقديرها للباراغواي ومعاملتها الطيبة للمهاجرين اليابانيين