IMLebanon

.. و«العدالة» مستمرّة

كلّما تجددت ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري سنوياً، كلما أدرك اللبنانيون أكثر وأكثر مدى الخسارة الفادحة التي لحقت بالبلد نتيجة غيابه، ومدى الحماقة التي اقترفتها أيدي القَتَلة المجرمين التي امتدت الى «الرجل الإستثنائي» في تاريخ لبنان لتنال منه، ظناً منها أن برحيله تُمحى إنجازاته وينتهي مشروعه الى غير رجعة، غير أنهم لم يدركوا أن هذا «الإستثنائي» الذي استطاعوا أن يغيّبوه عن محبّيه وجمهوره جسدياً فقط، ما زال محفوراً في قلوبهم ووجدانهم وتاريخ الجمهورية الذي سيخلّد مسيرته وإنجازاته. ظنّ المجرمون الحاقدون أنهم سيفلتون من العقاب وأن ما قاموا به من تخطيط وتحضير وتنفيذ لهذه المؤامرة لن يكشفه أحد، غير أن ظنّهم خاب مع بزوغ فجر العدالة من لاهاي مع انطلاقة عمل المحكمة الدولية التي طالب اللبنانيون بقيامها بشكل عفوي في الشارع إثر اغتيال الرئيس الشهيد، فيما المطالبة الأبرز كانت عبر التظاهرة المليونية التي شهدتها ساحة الحرية في 14 آذار 2005، بعد شهر على جريمة العصر.

وحتى صدور القرار الإتهامي في القضية في 28 حزيران 2011، والذي استند الى تحليل داتا الإتصالات وربط الشبكات الذي كشفه الرائد الشهيد وسام عيد بالتعاون مع رئيس شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي آنذاك اللواء الشهيد وسام الحسن، بعد مصادقة قاضي الإجراءات التمهيدية آنذاك دانيال فرانسين عليه وإحالته القرار مرفقًا بمذكرات توقيف إلى السلطات اللبنانية في 30 حزيران 2011 بحق أربعة من المتهمين، وهم: مصطفى بدر الدين وسليم عياش وحسن عنيسي وأسد صبرا قبل أن يضاف إليهم لاحقاً حسن حبيب مرعي لوجود أدلة تثبت تورّطه في الجريمة أيضاً، وجميعهم ينتمون الى «حزب الله»، بقي اللبنانيون وجمهور الرئيس الشهيد متخوّفين من عدم جلاء الحقيقة وكشف خفايا زلزال 14 شباط 2005.

ومنذ ثلاث سنوات، انطلق قطار العدالة في لاهاي مع انطلاقة المحاكمات العلنية للمتهمين باغتيال الرئيس الحريري، عندها أيقن اللبنانيون أن حلمهم تحقق وأن المتهمين مهما اختفوا وتهرّبوا وهُرّبوا فإن العدالة الدولية لهم بالمرصاد، خصوصاً بعد البداية المميزة والصادمة للحرفية التي تميز بها افتتاح الجلسات والأسلوب الذي تمكّن الإدعاء العام من خلاله من عرض وقائع ما حصل بالصوت والصورة. فيما تحلّ الذكرى الثانية عشرة هذا العام وقد اجتاز قطار العدالة أغلبية الطريق، خصوصاً بعد فضح المتهمين وما اقترفت أيديهم بالدلائل القاطعة. فالمحكمة الدولية ومن خلال مئات الجلسات، حسمت صحة ودقة مئات الأدلة التي قدّمها الادّعاء حول طريقة تنفيذ الجريمة وآلياتها وهوية المنفذين، ومن يقف وراءهم، وإعطاء الكثير من المؤشرات عمّن اتخذ القرار الكبير بالاغتيال ومهّد له سياسياً وأمنياً.

وبعيداً من التقنيات، شكّلت «الأدلة السياسية» التي قدّمها سياسيون مقربون من الرئيس الشهيد أدلوا بشهاداتهم أمام المحكمة حول الدوافع السياسية والضغوط التي كانت تُمارَس ضد الرئيس الشهيد قبل فترة الإغتيال من قِبل نظام الوصاية السوري، وأبرزهم الرئيس فؤاد السنيورة ورئيس الحزب «التقدمي الإشتراكي» النائب وليد جنبلاط والوزير مروان حمادة والنائبان أحمد فتفت وعاطف مجدلاني والنائب السابق سليم دياب، ومستشاري الرئيس الحريري هاني حمود وغطاس خوري وداوود الصايغ، وصحافيون عايشوا تلك المرحلة وأبرزهم الراحل نصير الأسعد وفيصل سلمان، وغيرهم، مدماكاً أساسياً أوضح للمحكمة وللجمهور اللبناني الكثير من المحطات التي عاشها الحريري في «حربه الباردة» مع النظام السوري ومخابراته في لبنان وعملائه اللبنانيين، والدوافع السياسية التي أدت الى قرار اغتياله، وحجم التهديدات التي تلقاها الرئيس الشهيد ومقربين منه بالإغتيال في الآونة الأخيرة بعد رفضه التمديد للحود ودعمه قوى المعارضة الإستقلالية، وكيف كان السوريون يفرضون على الرئيس الشهيد مرشحين على لوائحه الإنتخابية وفي حكوماته.

ويوماً بعد يوم لا تزال المحكمة تكشف أدلة جديدة حول تورط المتهمين الذين قرروا الهروب من وجه العدالة، فإذا بعدالة السماء كانت لهم بالمرصاد بعد مشاركة أحدهم، مصطفى بدر الدين، في القتال في سوريا ضد الشعب السوري الحرّ والأعزل. أدلة أثبتت للقاصي والداني، ولكل من حاول عرقلة سير العدالة، مدى وقاحة هؤلاء المتهمين وما حاكوه من مؤامرات لإغتيال الرئيس الشهيد. وما الحِرفية التي قدّمتها المحكمة حتى اليوم من خلال جلساتها، سوى خير دليل على أنها تشكّل ميزة عن غيرها من المحاكم الدولية، فهي المؤسسة الجنائية الدولية التي تدقّق في ألف دليل يقود الى هوية المتهمين، بدل البحث عن دليل واحد أو أدلة قليلة في محاكم أخرى. محكمة أثبت أداؤها الحِرفي، أنها لن تتهاون في محاسبة هؤلاء القتلة ومن يقف وراءهم وفضحهم أمام الجميع، رغم مرارة الجريمة والخسارة الفادحة التي مُني بها لبنان باغتيال باني نهضته الحديثة ورجل الإنماء والإعمار والتربية والتعليم والثقافة والإقتصاد الحديث، الذي لن يعوّض خسارته أي شيء. غير أن ما يعوّل عليه اللبنانيون من وراء هذه المحكمة هو إيقاف مسلسل الإغتيال السياسي في لبنان ووضع حد لهؤلاء القتلة الذين قضوا بموجب مخططاتهم الشريرة والوحشية على عشرات الأحرار الإستقلاليين من رفاق الرئيس الشهيد وعلى رأسهم اللواء الشهيد وسام الحسن والوزير السابق محمد شطح.