IMLebanon

كأس أخرى من السمّ  

 

 

ليست عودة الروح الى ثورة الشعب العراقي الذي نزل مجددا بمئات الآلاف الى الشوارع، خصوصا في بغداد، سوى دليل على الرغبة من التخلّص من الوصاية الايرانية. لم يتغيّر شيء. لا يزال هناك طموح لدى العراقيين، بكل طوائفهم، الى استعادة العراق، أي استعادة بلدهم، بغض النظر عمّا حلّ بقاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الايراني.

 

كان سليماني الذي جرت تصفيته مع أبو مهدي المهندس نائب رئيس «الحشد الشعبي» العراقي خارج مطار بغداد يعتقد انّه المفوض السامي الايراني الذي يستطيع التنقل في كلّ العراق من اجل فرض هيمنة «الجمهورية الإسلامية» عليه.

 

اكثر من ذلك، كان يظنّ ان لديه ما يكفي من النفوذ على الاجهزة والأحزاب والميليشيات العراقية للقضاء على تطلعات العراقيين. جاء مقتله ليؤكد ان العراقيين لم يكونوا يوما متعاطفين معه، هذا اذا وضعنا جانبا الميليشيات المذهبية التابعة لاحزاب معروفة، وانّ كلّ ما جرى من عراضات في مختلف المدن العراقية مباشرة بعد اغتياله كان امرا مصطنعا لا اكثر. من سار في جنازة سليماني في العراق انّما فعل ذلك مرغما ولم يعبّر عن حقيقة الشعور العراقي تجاه ايران ورجالها، خصوصا في أوساط الطائفة الشيعية.

 

اثبت العراقيون ان العراق ما زال يقاوم وانّ النظام القائم منذ العام 2003 غير قابل للحياة نظرا الى انّه ليس لديه ما يقدّمه الى العراقيين باستثناء تسهيل وضع اليد الايرانية على البلد عن طريق «الحشد الشعبي»، وهو النسخة العراقية لـ»الحرس االثوري» في ايران.

 

الاهمّ من ذلك كلّه ان تصفية سليماني اثبتت انّ «الجمهورية الإسلامية» التي اسّسها آية الله الخميني في العام 1979 ليست سوى نمر من ورق في غياب المشروع السياسي او الاقتصادي الذي تستطيع تقديمه. رفض المرجع الشيعي الأعلى في النجف علي السيستاني تغطية ايران وردّها العسكري على اغتيال سليماني والمهندس داخل الأراضي العراقية. على العكس من ذلك، وفّر الغطاء المطلوب لاستمرار الثورة الشعبية في العراق. ربّما استفاق العراقيون على واقع يتمثّل في انّ حرّرهم من النظام السابق لم يكن ايران، بل القوات الاميركية وانّ ايران ليست قادرة سوى على تصدير البؤس والتخلّف والفقر والبطالة. دفعت هذه الاستفاقة بحكومة عادل عبد المهدي المستقيلة الى تقديم شكوى ضدّ ايران في مجلس الامن التابع للأمم المتحدة ردّا على انتهاك السيادة العراقية وبادئ حسن الجوار… عاجلا ام آجلا، سيتبيّن ان الولايات المتحدة باقية عسكريا في العراق وان ذلك يعود الى رغبة عراقية بذلك. رغبة شيعية وكردية وسنّية. ليس طلب عادل عبد المهدى من الإدارة الاميركية وضع خطط لسحب قواتها من العراق سوى من باب رفع العتب. انّه تأكيد لبحث غير مجدٍ عن توازن معيّن بين اميركا وايران وهو توازن اقرب الى سراب.

 

يُفترض لما يحدث في العراق حاليا ان يكون درسا لبلدان أخرى في المنطقة من بينها لبنان. فالتظاهرات في بغداد والاشتباكات في كربلاء ليست سوى تأكيد آخر لوجود وعي شعبي للواقع، أي للحال التي يعاني منها العراق. هناك بلد غنيّ بكلّ شيء يعاني من كلّ نوع من أنواع المشاكل بما في ذلك الفقر والبطالة والتخلّف والنقص في المياه والكهرباء والغرق في النفايات. ثمّة عجز لدى السلطات العراقية عن معالجة أي مشكلة من المشاكل. يعود ذلك بكلّ بساطة الى رغبة ايران في نهب العراق وثرواته واستخدامه ورقة في مساومات وصفقات مع «الشيطان الاكبر» الاميركي. هناك وعي شعبي عراقي للواقع. متى يصبح هناك وعي شعبي لبناني يأخذ في الاعتبار ان في أساس مشاكل لبنان حاليا وافلاس الدولة وجود رغبة إيرانية في فرض وصاية على البلد عبر ميليشيا مذهبية باتت تقرّر من هو رئيس جمهورية لبنان ومن هو رئيس الحكومة فيه.

 

كشف اغتيال قاسم سليماني الكثير. كشف افلاس المشروع التوسّعي الايراني. هناك حال ارتباك على كلّ صعيد في طهران. لعلّ افضل تعبير عن حال الارتباك هذه سقوط طائرة الركاب الأوكرانية بعيد إقلاعها من مطار العاصمة الايرانية. ادّى ذلك الى مقتل كلّ الركاب وافراد الطاقم وعددهم 176. اعترف الايرانيون أخيرا باسقاط الطائرة عن طريق «الخطأ». هذه فضيحة تؤكد لمن لا تزل لديه أي أوهام ان ايران ليست سوى دولة متخلّفة يعتقد النظام فيها ان في استطاعته ممارسة لعبة التحايل الى ما لا نهاية.

 

لا تشبه المرحلة الراهنة سوى تلك التي سبقت وقف ايران الحرب مع العراق صيف العام 1988  بعدما تبيّن ان العناد والإصرار على متابعة الحرب ليسا سياسة قابلة للحياة. جاء وقف الحرب بعيد سقوط طائرة ركّاب إيرانية عن طريق الخطأ نتيجة صاروخ اطلقته البارجة الاميركية «فينسينز» التي كانت تبحر في مياه الخليج. اربك الحادث ايران التي لم تعد تعرف ما عليها عمله، خصوصا بعد اغراق الاميركيين منشآت ومنصات نفطية في موانئها الخليجية ردّا على تهديدات صدرت عن مسؤوليها. في نهاية المطاف اضطر الخميني في 18 تموز- يوليو 1988، الى الموافقة على مضض على قرار مجلس الأمن الرقم 598 قائلاً: «كانت الموافقة على القرار مريرة حقاً ومسألة مأساوية للجميع، خصوصا بالنسبة اليّ. في هذه المرحلة، أرى أن ذلك يصب في مصلحة الثورة والنظام. الموت والشهادة أهون علي من ذلك. كم أنا حزين، لأنني تجرعت كأساً من السم حين وافقت على القرار».

 

بين العقوبات الاميركية التي تزداد يوما بعد يوم وبين رفض العراقيين الانصياع لرغبات ايران، يبدو واضحا انّ على «الجمهورية الإسلامية» تجرّع كأس أخرى من السمّ. هناك بكلّ بساطة مشروع توسّعي شارف على نهاياته. كانت تصفية قاسم سليماني بمثابة إشارة الى انّ هذا المشروع الايراني الذي جدّد شبابه في العام 2003،  بفضل الولايات المتحدة وليس بفضل احد غيرها، اقترب من الافلاس وان لا مكان سوى لحال من الارتباك والضياع في طهران. من الطبيعي في ظلّ هذه المعطيات ان يأخذ اللبنانيون الذين يعانون قبل غيرهم من السلوك الايراني علما بذلك. صار لبنان على قاب قوس او ادنى من الانتهاء من «عهد حزب الله» الذي بدأ في 31  تشرين الاوّل – أكتوبر من العام 2016. تبيّن ان التسوية التي جاءت بميشال عون رئيسا للجمهورية لم تكن تسوية بمقدار ما كانت انتصارا لـ»حزب الله»، أي لإيران. كانت انتصارا على لبنان واللبنانيين. لماذا لا يشمل التراجع الايراني لبنان بعدما بلغ ايران نفسها وبعد ظهوره واضحا في العراق، فيما عرفت روسيا كيف تملأ الفراغ الايراني في سوريا على وجه السرعة؟