IMLebanon

صدام العجرفة وتغييب الأولويات على أرض العرب

قراءة الصدام بين روسيا وتركيا٬ الذي يملأ الدنيا اليوم٬ يمكن أن تأخذ المتابع إلى أكثر من تفسير. الأسئلة كثيرة؛ منها ما إذا كان هذا الصدام له علاقة بالتاريخ القيصر والسلطان)٬ أو إعادة نفوذ إمبراطوريات غاربة٬ مرغوب من الطرفين إعادتها بشكل ما٬ أو رغبة في التوسع والاستحواذ في الخاصرة العربية الرخوة.. أم له علاقة بالحرب البديلة بين الغرب والشرق٬ أم هو صراع بين «عجرفتين» في الغالب لهما طابع شخصي! أٌي من تلك القراءات المختلفة السابقة لا ينفي الحقيقة الشاخصة أمامنا٬ بأن هذا الصدام يحدث على أرض عربية٬ ويدفع ثمنه عرب من الدم العربي المراق يومًيا في المدن والبلدات السورية والعراقية٬ ويدفع بعشرات الآلاف الآخرين من العرب يومًيا إلى مغادرة بيوتهم وقراهم إلى الشتات والموت٬ كما أن توسع هذا الصدام إن حدث سيكون على أرض عربية.

تلك الحقيقة تجعل من المراقب العربي يحاول تفسير ما يحدث٬ ويمد البصر٬ إن أمكن٬ إلى توقع المستقبل القريب والمتوسط.

هنا أشارك القارئ في التفكير بصوت عاٍل في عدد من النقاط الرئيسية٬ وهي الخمس التالية:

أولا: الانتقام للإمبراطورية٬ فلا بد من تذكر يوم 25 ديسمبر (كانون الأول) عام 1991 (تقريبا قبل عشرة أعوام من وصول فلاديمير بوتين إلى رأس السلطة)٬ كان يوًما حزيًنا للإمبراطورية السوفياتية٬ التي استمرت ثلاثة أرباع القرن٬ يوم أنزل العلم السوفياتي في ذلك المساء من على سارية الكرملين٬ ورفع العلم الأحمر والأزرق والأبيض الروسي٬ إيذانا بميلاد دولة وطنية٬ وانهيار نفوذ إمبراطورية وّدعت إلى الأبد الفضاء الإمبراطوري٬ الذي استمر لفترة طويلة من التاريخ٬ حتى قبل قيام الاتحاد السوفياتي. هذه اللحظة التي شهدها نفر قليل من المواطنين في الميدان الأحمر أصابت جيلاً روسًيا كاملاً بخيبة أمل تاريخية٬ لم يبرأ منها حتى اليوم٬ وحنين مرضي إلى الماضي٬ فلم تخسر البلاد نظاًما بل إمبراطورية٬ وغاصت روسيا في السنوات العشر أو أكثر التي تلت٬ في لعق جراحها٬ في الوقت الذي شهدت فيه تساقط الدول التابعة لها من جهة٬ وتوسع وتقدم نفوذ الدول الغربية وعلى رأسها أميركا قريبا من الفضاء الروسي وفي عقر داره من جهة أخرى. هذا مما يجعل روسيا اليوم تبحث عن «فتوة» ويمثلها السيد فلاديمير بوتين٬ ليس من خلال سياساته فقط٬ بل حتى في خيار مظهره الذي كثيًرا ما يستعرض فيه شكله البدني وقوته الشخصية٬ وفي الوقت نفسه بدأ يجمع حوله ما سمته مجلة «التايمز» الأسبوعية٬ في عدد 7 سبتمبر (أيلول) ٬2015 في مقال تحت عنوان: «رجال حول الرئيس»٬

مجموعة «رجال سيلوفيكي»٬ وهم رجال من ذوي النفوذ٬ معظمهم من مدينة بطرسبورغ٬ مسقط رأس الرئيس بوتين٬ ومتشددون وأصحاب مصالح٬ إما جنرالات مخضرمون وإما من رجال جهاز الاستخبارات القديم (كي جي بي). لقد تخلص تدريجًيا في «بلاطه» من رجال الوسط أو المتعاطفين مع النظام الغربي٬ والليبراليين٬ هؤلاء ­ في «سيلوفيكي» ­ مرتبطون مباشرة بالسيد بوتين٬ ولا رابط بينهما٬ هو وحده يشكل نقطة التوازن٬ُمعادون للغرب٬ رغم ­ كما تقول المجلة ­ أن أبناءهم يدرسون في المعاهد الغربية ويضعون أموالهم في البنوك الغربية٬ ويتشمسون في فلوريدا٬ ويتبضعون في ميلان! على حد اجتهاد المجلة! هؤلاء أضيروا كثيًرا بعد أحداث أوكرانيا والمقاطعة الغربية الاقتصادية لروسيا التي تلت٬ وأصابتهم مباشرة بحصار شخصي٬ هؤلاء يميلون إلى تضخيم المخاطر ويشيعون انتشار ثقافة الريبة٬ في الوقت الذي يعلمون فيه أن نظرية «تبادل السلطة» التي اخترعوها سوف تأخذ السيد بوتين إلى أكثر من ثلث قرن مقبل في الحكم! فلا بد من مغامرة قد تكون محسوبة من أجل الثأر٬ ويفضل أن يكون الطرف الآخر هًشا كالساحة السورية.

ثانيا: على مقلب آخر٬ فإن السيد رجب طيب إردوغان يحمل بعض تلك الخصائص التي يحملها سيد الكرملين اليوم٬ فهو مندفع إلى السلطة ومحبذ سلطة مركزية٬ يكون هو فيها نقطة التوازن.. هدفه الرئيسي تغيير الدستور التركي الحالي إلى آخر يجمع كل أو معظم السلطات في يده٬ كما يتطلع إلى الفضاء العربي في الجوار وما بعده على أنه المكان الذي يجوز فيه التمدد٬ فلم يرَض بنتائج محدودة في الانتخابات الأولى قبل أشهر٬ ثم تمت انتخابات عاجلة أخيًرا٬ مكنته من الحصول على أغلبية مريحة. بعض المراقبين يصفون العملية السياسية في تركيا بالديمقراطية «الرخوة»٬ حيث يتمكن بعض القوى من خلق حالة فزع من الخيار الآخر٬ مما  يضطر كثيرين إلى الإبقاء على ما يعرفونه خيًرا من المغامرة مع ما لا يعرفونه. حالة الاستنفار مع القوى الكردية والمعارضين في الداخل التركي التي سبقت الانتخابات الأخيرة قد تكشف عن ذلك المنحى بأكثر ما يمكن من الوضوح. في مكان آخر لعبت تركيا على خوف أوروبي من تدفق غير مسبوق وضخم من اللاجئين الذي وضع العواصم الأوروبية بين خيارين لا حلاوة فيهما؛ إما أن يقفوا ضد كل ما قالوه في تاريخهم الحديث عن حقوق الإنسان والمساواة فيمنعون ذلك التدفق٬ وإما أن يقبلوا اللاجئين في أرضهم على ما ينتج ذلك من خلل في التركيبة السكانية والثقافية وضغط على الاقتصاد عندهم.. خيارهم هو دعم تركيا وتقديم بعض التنازلات لها من أجل أن تقوم «باستضافة» من يحتمل توجههم إلى أوروبا دون السؤال كثيًرا عن طرق تلك الاستضافة! إنها فزاعة اللاجئين التي ترغب تركيا في استمرارها استثماًرا لتحقيق أكبر المكاسب من أوروبا٬ فلماذا العجلة في المساعدة لحل المعضلة السورية؟

ثالًثا: في الحالتين الروسية والتركية يمكن مشاهدة «استنهاض الغرائز القديمة»٬ إلا أنها غرائز تتوجه إلى الثانوي من العوامل٬ فإسقاط الطائرة الروسية أعطى الكرملين طاقة مضافة سياسًيا للاستنهاض لدى جمهوره٬ كما أعطى أنقرة الطاقة نفسها٬ وإن كانت مضادة٬ وبدا الاثنان كأنهما على صراط الصدام٬ إلا أنه صدام تتنازل فيه روسيا عن صدامها مع الكبار (الولايات المتحدة) إلى الأصغر (تركيا)٬ وتتطاول تركيا على دولة كانت كبرى! وهذا يعني فيما يعني تراجع روسيا من أمة إمبراطورية إلى وطن روسي لا أكثر٬ وتقدم تركيا للمنافسة بظهير من الغرب٬ وهذا يحقق للزعيمين شعبية واسعة يحتاجان إليها.

رابًعا: تشعر روسيا أن خسارتها الإمبراطورية كان أساسها صراعها الذي دخلت فيه أو استدرجت إليه في أفغانستان٬ الذي شكل لها عقدة «شبه فيتنامية بالنسبة إلى أميركا» وهي في سوريا ضد «داعش» الإرهاب٬ تثأر لذلك التاريخ٬ كما أن مفهومها للإرهاب يتوسع من كل ما هو عنفي٬ إلى – تقريًبا ­ كل ما هو إسلامي ­ سني على وجه التحديد٬ على ما فيهما من خلاف بّين. وما تقربها من إيران٬ المضادة تاريخًيا لتركيا٬ إلا جزء من صراعها القديم.

خامًسا: ما يجري حولنا إن نظرنا إلى المستقبل هو اصطفافات جديدة وبحث عن تحالفات إقليمية من أجل التكالب على مائدة العرب٬ للحصول على غنائم منها٬ بل ربما تقسيم بعضها٬ واستمرار نزف الدم العربي٬ إلا أن أصحاب الأرض (العرب) غائبون٬ إما بسبب عدم وعي بأن المائدة المتقاتل عليها هي مائدتهم٬ وإما بسبب اعتقاد خاطئ بأن الآخرين سوف يكونون مؤتمنين على حقوقهم٬ وكلا الافتراضين لا أبعد منهما عن الواقع.. الأمر يتطلب إرادة عربية٬ تترفع عن الصغائر والانشغال المرضي بالنفس٬ تدفع إلى التلاحم لإبعاد المتطفلين حول المائدة العربية٬ من خلال خلق مناعة تضع أولوياتها٬ وهي اليوم إقامة نظام حديث ومدني وعادل في سوريا٬ ولا يسمح أنُتغيب تلك الأولوية على وقع غبار صراع العجرفة.

آخر الكلام:

خطاب الكراهية في الغرب٬ بعد أحداث باريس٬ُيوجه إلى دول الخليج٬ُمركًزا على دورها المزعوم.. يحتاج الأمر إلى حملة علاقات عامة شعبية ودبلوماسية٬ قبل أن يتحول الأمر إلى شيطنة٬ تمهيًدا لحدوث الأسوأ.