IMLebanon

موازنة 2019 بين الشارع وسيدر: لا الدنيا ولا الآخرة

    

يقترب مشروع موازنة 2019 من الذهاب إلى مجلس النواب. إذا صحّ أنّ الجلسة الأخيرة لمجلس الوزراء اليوم، فإن أحداً لا يسعه من الآن التكهن كيف سيخرج المشروع من البرلمان، وإن صحّ أيضاً أنّ السرايا ليست سوى صدى ساحة النجمة. كذلك العكس

 

تشبه مقاربة حكومة الرئيس سعد الحريري موازنة 2019 مقاربتها قانون الانتخاب عام 2017. كلاهما احتاج إلى أشهر لإبصاره النور قيصرياً. كلاهما بدوَا مصيرين لها لرسم مسار المرحلة التالية. في كليهما تصرّف الأفرقاء على أنهم معنيون بهما. بذلك لا يختلف عدّ الأصوات عن عدّ الأرباح والمكاسب والمصالح. بيد أن أكثر ما يشكل قاسماً مشتركاً بين مشروعي 2017 و2019، أن كلاً من القوى الرئيسية التي تتشكل منها الحكومة، رئيساً وكتلاً، يريد أن يخرج رابحاً بلا خسائر إذا أمكن. مع ذلك، خرج هؤلاء من انتخابات 2018 بندوب واضحة، نجمت عن واقع لم يكن في وسعهم تجاوزه، وهو الذهاب رغماً عنهم إلى الانتخابات النيابية العامة الأولى منذ عام 2009. لم تختبر هذه القوى وزر قانون الانتخاب، إلا عندما أضحت أمام صناديق الاقتراع ونتائجها. أرادت قانوناً على قياسها، فكانت المفاجأة في الشارع.

بالكتل نفسها التي غامرت عام 2017 بوضع قانون النسبية والصوت التفضيلي، تواجه حكومة الحريري إنجاز موازنة 2019. لكن بفارق جوهري عما خبرته في انتخابات 2018، هو أن الشارع لم يمهلها كي تنجز القانون، ثم يدخل في مواجهة لاحقة معها. هذه المرة، انخرط الشارع في الاشتباك في عز مناقشة الموازنة، وبات يلعب دوراً ضاغطاً على الطريقة التي تقارَب بها الموازنة. ذلك ما يفعله العسكريون المتقاعدون والمعلمون وأساتذة الجامعة اللبنانية والموظفون المدنيون والإداريون. ما حدث البارحة، عندما وصل العسكريون المتقاعدون إلى النقطة غير المسبوقة عند السرايا، من غير أن يتمكن رفاقهم في الخدمة من التصرّف بخشونة معهم، شأن ما اعتادوه مع حالات مماثلة في حركات المجتمع المدني، ومن غير أن يطلع صوت يقول إن السرايا «خط أحمر»، ومن غير أي إدانة حتى، قدّم دليلاً إضافياً على أن الشارع بات الندّ الفعلي للسلطة. ما حدث مرشح إلى أن يتكرّر على نحو مطابق، ما إن يصبح مشروع الموازنة في عهدة مجلس النواب.

واقع الأمر أن حكومة الحريري لم تعد في وضع لا تُحسد عليه فحسب، ولا هي تجبه الشارع فحسب، بل أضحت قبالة أزمة اقتصادية نقدية خانقة يصعب الخروج منها بالسهولة المتوخاة. تريد استعجال إقرار الموازنة في الجلسة 17 لمجلس الوزراء لخفض أرقامها والعجز، وفي الوقت نفسه توجيه إشارة إيجابية إلى مؤتمر سيدر بغية بعث الطمأنينة في رعاته، بعد أكثر من سنة على عقده، على أنها لا تزال في صدد الخطوة الأولى: موازنة متقشفة وإصلاحية. بذلك باتت حكومة الحريري، التي لا تريد مواجهة الهدر في الاتصالات والجمارك والأملاك البحرية والنهرية واستيراد النفط – المنوطة بالتساوي بكتلها – أسيرة أحد خيارين صعبين قد لا يكون من السهل عليها استيعاب تداعيات كل منهما: إما موازنة تستجيب لشروط مؤتمر سيدر وتُغضب الشارع اللبناني وتشعله، أو موازنة ترضخ لتحرّك الشارع وتفقد فرصة المؤتمر الدولي وقروضه الأحد عشر مليار دولار.

 

إما موازنة تستجيب لسيدر وتُغضب الشارع، أو موازنة ترضخ للشارع وتفقد المؤتمر

 

بيد أن الإشارة الإيجابية الوحيدة التي تحاول حكومة الحريري إيصالها، من خلال إظهار جدية العمل على الموازنة المتقشفة، لا تزال إلى الآن بلا تلقف إيجابي، على الأقل من فرنسا الراعية الأولى للمؤتمر.

ليس سراً أنّ انعقاد مؤتمر سيدر أتى بعد أشهر قليلة على اجتياز الحريري محنة احتجازه في السعودية في تشرين الثاني 2017، والدور البارز للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لدى الرياض كما لدى المجتمع الدولي، لإطلاقه وإعادته ليس إلى بيروت فحسب، بل أيضاً إلى منصبه رئيساً للحكومة. مزيداً في انتشال دوره، أتى مؤتمر الدول المانحة في نيسان 2018 كي يعيد المبادرة إلى الحضورين المحلي والإقليمي للحريري وإبراز الحاجة إلى وجوده، بعدما شاع عن إساءة معاملته في الدولة التي يحمل جنسيتها، وأوشكت أن تعاقبه بلا تساهل. أكثر ما انطوى عليه إنجاده آنذاك، سواء بالدور الفرنسي أو من خلال التحرّك اللبناني الرسمي لعودته إلى بلاده، هو أن بقاءه في رئاسة الحكومة بات يشكل المصدر الفعلي لحمايته من أي استهداف سياسي أو أمني، فيتجاوز عقدة الجنسية السعودية، إذ تخضعه لقوانين المملكة. على نحو كهذا اقترن مؤتمر سيدر لإنقاذ الاقتصاد اللبناني بتعويم الدور السياسي للحريري. ذلك ما حمله على القبول على مضض بقانون الانتخاب، ومن ثم الخروج من انتخابات 2018 بجروح أفقدته ثلث كتلته النيابية، ثم استنزفته مرحلة تكليفه تأليف الحكومة أشهراً إلى أن سلّم بها. مع ذلك كله، لم يتلقّ حتى الساعة إشارة إيجابية معاكسة من الرئيس الفرنسي تجزم بالرهان على مؤتمر سيدر.

عندما حضر موفد ماكرون السفير بيار دوكان إلى بيروت في تشرين الأول المنصرم، لم يتردد في تأنيب المسؤولين اللبنانيين على ترددهم في إنجاز إصلاحات اقتصادية ونقدية بنيوية في نظامهم. بدوره ماكرون لا يزال يتردد في تحديد موعد زيارته لبنان، وكان آخر موعد مقرّر لها في شباط المنصرم، بعد أكثر من تاريخ حُدد سابقاً، ثم صُرف النظر عنه. إلى الآن يتحدث المسؤولون اللبنانيون عن أن الزيارة مؤجلة أكثر منها ملغاة، لكن بلا حجة مبرّرة.

الواضح أن المشكلة الفعلية للحريري وحكومته مع موازنة 2019 والاستحقاقات المكلفة التي ستليها، وهما يعبران بالممرين الملزمين، الشارع الغاضب والقروض المؤجلة، أن من غير المؤكد لكليهما أنهما مع هذا أو ذاك يربحان الدنيا أو يتفاديان الآخرة.