جاءت زيارة المبعوث الأميركي الخاص إلى لبنان، توم باراك، إلى بيروت في لحظة سياسية حسّاسة، وسط انهيار اقتصادي ممتد منذ خمس سنوات، وتصعيد ميداني متواصل مع إسرائيل، وانقسام داخلي لبناني حاد حول مستقبل سلاح «حزب الله». وفي حين أرادت واشنطن إيصال رسالة مزدوجة، دعم الدولة اللبنانية من جهة، والضغط باتجاه نزع السلاح غير الشرعي من جهة أخرى، فإن نتائج الزيارة ستظل رهن توازنات معقّدة يتجاوز جزء كبير منها قدرة لبنان على الحسم منفرداً.
• أهداف واشنطن من الزيارة
1. تثبيت «خطة نزع السلاح» كخيار سياسي رسمي:
تريد واشنطن أن تُظهر أن الحكومة اللبنانية، بقرارها الأخير وضع خطة تدريجية لنزع السلاح غير الشرعي، قد دخلت في مسار لا عودة عنه. الزيارة جاءت لترسيخ هذه القناعة، عبر تأكيد أن المجتمع الدولي سيدعم الجيش اللبناني والمؤسسات الرسمية إذا التزمت بالمضي قدماً في تنفيذ الخطة.
2. الضغط على إسرائيل لخطوات مقابلة:
على الرغم من الخطاب التقليدي الذي يحمل «حزب الله» المسؤولية، فإن باراك حاول هذه المرة إدخال إسرائيل في المعادلة، عبر الحديث عن «مصافحة متكافئة» تتضمن وقف الاعتداءات وسحب القوات من الأراضي اللبنانية المتنازع عليها. هذا الطرح يعكس إدراكاً أميركياً أن تحميل لبنان وحده عبء التسوية سيجعل الخطة غير قابلة للحياة.
3. ربط الملف الأمني بالاقتصاد:
الإدارة الأميركية تعي أن أي حديثا عن نزع السلاح بمعزل عن الأزمة الاقتصادية سيبقى فارغاً. لذلك حمل باراك وعداً بمؤتمر دولي لإعادة الإعمار يشمل الجنوب والمناطق المتضررة من الحرب، على أن يكون مشروطاً بتقدّم ملموس في تنفيذ الخطة الأمنية.
• موقف القوى اللبنانية
1. رئاسة الجمهورية والحكومة:
الرئيس جوزيف عون ورئيس الحكومة نواف سلام قدّما للموفد الأميركي خطاباً متقارباً، دعم الجيش كقوة وحيدة شرعية، والانفتاح على أي مبادرة دولية اقتصادية. لكنهما يعرفان في قرارة نفسيهما أن التنفيذ العملي شبه مستحيل من دون تفاهم مع «حزب الله».
2. رئيس البرلمان نبيه بري:
الاجتماع بين باراك وبري كان لافتاً. بري، الذي وُصف من الموفد الأميركي بـ«الشخصية الفطنة»، أعاد التذكير بأن أي نقاشا حول السلاح يجب أن يبدأ من انسحاب إسرائيل الكامل ووقف اعتداءاتها. بري أراد أن يوجه رسالة مزدوجة: لا يمكن تجاوز دوره كضامن لأي تفاهم داخلي، ولا يمكن القفز فوق موقف الحزب.
3. «حزب الله»:
الحزب يتعامل مع الخطة الأميركية باعتبارها محاولة لتجريده من أوراق قوته الإقليمية. لذلك يرفض أي جدول زمني ملزم لنزع السلاح، ويربط الأمر بملفين: الانسحاب الإسرائيلي، والتوازن الإقليمي مع إيران. أي ضغط مباشر قد يُترجم بتصعيد أمني على الجبهة الجنوبية، أو حتى بعودة التوتر إلى الداخل اللبناني.
• الموقف الإسرائيلي
إسرائيل، من جهتها، تنظر إلى الخطة من زاويتين متناقضتين:
– إيجابية: لأنها قد تفضي إلى تقليص قدرة «حزب الله» على تهديد العمق الإسرائيلي.
– سلبية: لأنها تتطلب منها تنازلات عملية كوقف الغارات والانسحاب من نقاط حدودية. تاريخياً، لم تُبدِ إسرائيل استعداداً جدّياً لهذه التنازلات، ما يجعل التوقعات حيال التزامها محدودة.
إضافة إلى ذلك، فإن الحكومة الإسرائيلية تواجه ضغوطاً داخلية، حيث تعتبر قوى اليمين أنّ أي «هدنة طويلة الأمد» مع لبنان هي هزيمة سياسية وأمنية.
• البُعد الإقليمي
– إيران:
إيران ترى في «حزب الله» ذراعها الأكثر فعالية في المشرق. لذلك ستعارض أي خطوة عملية قد تضعف الحزب، وستعتبر الخطة الأميركية محاولة لإعادة رسم التوازنات الإقليمية لصالح إسرائيل والسعودية.
– الدول العربية والخليجية:
بعض العواصم العربية، وخصوصاً الخليجية، تراقب التطورات عن قُرب. فنجاح الخطة قد يشكّل مدخلاً لإعادة انخراطها في دعم لبنان اقتصادياً. لكن هذه الدول لن تتحرك جدّياً قبل التأكد من أن «حزب الله» بالفعل في طريقه لتقليص نفوذه العسكري.
• السيناريوهات المحتملة
1. نجاح مرحلي محدود:
تنجح الحكومة في إظهار بعض الخطوات الشكلية (ضبط سلاح في المخيمات الفلسطينية، تعزيز الجيش في الجنوب)، مقابل التزام أميركي بعقد مؤتمر اقتصادي. لكن السلاح الاستراتيجي للحزب يبقى خارج البحث.
2. فشل الخطة وتجميدها:
يستمر الانقسام الداخلي، ويرفض الحزب التنازل، فيما تعجز إسرائيل عن تقديم التزامات مقابلة. النتيجة: تجميد الخطة وتحويلها إلى مجرد ورقة ضغط سياسية.
3. تصعيد عسكري جديد:
إذا اشتد الضغط الأميركي – الإسرائيلي على الحزب، قد يختار الرد عسكرياً سواء عبر الحدود أو في الداخل، ما يعيد المشهد إلى دائرة العنف ويفشل أي مسار تفاوضي.
زيارة توم باراك إلى بيروت ليست حدثاً عابراً. إنها مؤشر إلى أن واشنطن تريد إعادة فتح ملف نزع السلاح بقوة، ولكن ضمن معادلة جديدة تحاول إشراك إسرائيل في تقديم تنازلات. ومع ذلك، فإن الحسابات الداخلية اللبنانية، وتعقيدات الإقليم، تجعل الطريق نحو أي تسوية طويلة الأمد مليئاً بالعقبات.
في المحصلة، ما لم تُقرن الوعود الأميركية بخطوات إسرائيلية ملموسة، وما لم تنجح القوى اللبنانية في التوصل إلى حدّ أدنى من التفاهم، فإن زيارة باراك ستبقى أشبه بزيارة دبلوماسية بروتوكولية أخرى، الكثير من الصور والتصريحات، والقليل من النتائج الفعلية.