IMLebanon

زيارة برّاك وتفسيراتها: الدولة بين «شاقوفَين»!

 

نقيب محرري الصحافة

لا شك في أنّ الحيرة قد أدركت متابعي زيارة الموفد الأميركي توم برّاك في ضوء التصريحات التي أدلى بها في بيروت، ويصحّ فيها قول: «الناقض والمنقوض والغامض بينهما»، نظراً للقراءات المختلفة لمضمونها لدى السياسيِّين والمراقبين الراسخين في فك الرموز وتحليل «شيفرة» الكلمات وما ترمي إليه باطناً وظاهراً.

 

في استطاعة المُراجِع لتصريح برّاك أن يكون منفرج الأسارير، أو مرتاباً. لكن هذه الزيارة التي قام بها أبقت الباب موارباً، وفي نقطة وسط بين الإنفراج الموعود والإنفجار المنتظر. ولا ينشغلنّ أحد بـ «حلاوة «تتقطّر» من طرف اللسان» لأنّه سبق للبنان، ومن قبل العراق زمن صدام حسين، أن وقع في فخها. ولا سبيل إلى تعداد الأمثلة التي يَضيق المجال بذكرها. هناك حقائق لا يمكن أن يتنكّر لها أي مراقب حيادي أو موضوعي:

 

– أولاً: إنّ واشنطن ملتزمة إستراتيجياً بالدفاع عن إسرائيل وسياساتها، ولا تستطيع أن تنفض يدها من أي ملف أو مشكلة تتصل بمستقبل الدولة العبرية وأمنها في منطقة الشرق الأوسط. وهي فعلاً مهتمة بالمنطقة لكن من زاوية الدفاع عن إسرائيل. وإنّ دور برّاك هو إقناع الدولة اللبنانية بالعمل على حَلّ «سلس» أقرب إلى الاستسلام تحت أي عنوان ومسمّى، قبل أن تستأنف إسرائيل حربها الاستئصالية ضدّ «حزب الله». ويعتبر برّاك أنّ مهمّته غير مفتوحة زمنياً، ولو يُشتمّ منه أنّه منح الدولة فرصة جديدة. وإذ أوحى بأنّ صيغة وقف إطلاق النار لم تُعطِ نتائج على الأرض، وأنّ السبب يعود إلى فشل الجانبَين اللبناني والإسرائيلي و»حزب الله» في تطبيقها، فإنّ الواقع مغاير تماماً، لأنّه قبيل إعلان وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024، كانت هناك ورقة ضمانات أميركية من 8 بنود، يُبيح مضمونها لتل أبيب خرق الإتفاق ساعة تشاء لمواصلة الإعتداء على لبنان، وهو ما تفعله، بالإضافة إلى إحتلالها التلال الخمس في جنوبه. وهذا يعني بصريح العبارة، أنّ على الدولة اللبنانية أن ترضخ للإملاءات الأميركية المصاغة بحبر المصلحة الإسرائيلية، وهذا ما لا تريده بالطبع وتعمل لإبعاد كأسه المرّة.

 

– ثانياً: وجود إنقسام لبناني بين منطقَين واتجاهَين وأسلوبَين في مقاربة المشكلة. لكن لا مفرّ من جواب حاسم من «حزب الله» عاجلاً أم آجلاً حول حصرية السلاح بيد الدولة، وآلية تطبيق هذه الحصرية: هل باستراتيجية دفاع وطني تُحدِّد دور المقاومة ووظيفتها المستقبلية، ويتشارك الحزب الجواب مع حليفته حركة «أمل» والقوى الداعمة له والمتعاطفة معه. على أنّ هناك أطرافاً ترى أنّ لا حاجة لاستراتيجية دفاع، وأنّ على الجيش اللبناني أن يتولّى هو شأن الدفاع عن لبنان وسيادته، وألّا يكون هناك سلاح خارج سلطته. وهذان المنطقان لا يلتقيان، ويُشكّلان مصدر توتّر سياسي حاد قد ينتقل إلى الشارع، وهو ما يسعى رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون إلى تفاديه بالحركة السياسية اللافتة التي يتولّاها في غير اتجاه. وإنّ منطق التحدّي على الأرض وفي الإعلام يزيد الأوضاع تأزّماً. وهو ما يُعطي إسرائيل مزيداً من الذرائع لتُكمِل إجرامها ضدّ اللبنانيِّين والمناطق الحدودية. بدليل أنّ زيارة برّاك لم تمنعها من الاستمرار في اعتداءاتها على البشر والحجر.

 

– ثالثاً: إنّ إسرائيل على ما يبدو لن تقبل بأن يُعاد إعمار الجنوب وسائر المناطق التي تهدّمت من دون ترتيبات عسكرية وأمنية تضمن أمن حدودها الشمالية، لذلك فإنّ الخطوة الأولى بعد نزع سلاح «حزب الله» هي إنشاء منطقة عازلة خالية من أي وجود بشري وعمراني. وإنّ عملية «الحلاقة» التي تقوم بها لتدمير آخر ما تبقّى من أثر حضري تصبّ في خدمة هذا المخطّط. ومن هنا القول إنّ الدولة اللبنانية باتت حجراً بين «شاقوفَين». هناك خطر كبير إذا لم تعمد إلى معالجة سلاح «حزب الله» من عودة الحرب بصورة أعنف وأكثف. وهناك خطر أكبر إذا أقدمت معرِّضةً السلم الداخلي لأخطار ومحاذير قد تكون – لا سمح الله – أشدّ هولاً من حرب إسرائيل المباشرة.

 

إنّ السؤال حول زيارة برّاك يبقى الجواب عليه سؤالاً أو أسئلة. لكنّ لبنان في غرفة الإنتظار يرتقب ما يُرسَم له من مصير ما كان ليكون «قدرياً» لو أنّ الانقسامات السياسية العميقة تسقط في أزمنة الشدائد. فهل يفلح الحُكم في تجاوز العقبات والسدود وتسويق صيغة مستوحاة من واقع الأرض والميدان، تفتح كوّة في الجدار المسدود؟