IMLebanon

 بين جبران وسعيد عقل

كان سعيد عقل يتحاشى الكلام عن جبران خليل جبران، وإن اضطر في أحيان إلى الكلام عنه فكان يتحدث عن عالميته اللبنانية. نادراً جداً ما كان يتطرق إلى أدبه ولغته والثورة التي أحدثها في الأدب العربي الحديث. والمقال اليتيم الذي كتبه عنه ملبياً رغبة «المجلة التربوية» اللبنانية (1981) وهي مجلة مغمورة، لم يتخطّ الثلاثمئة كلمة وعنوانه «عظيمنا الذي هو للعالم» وكأنه أراد به نفي جبران خارج لبنان ليستأثر هو به، بصفته «شاعر لبنان» كما درجت كنيته. واللافت في هذا المقال شبه المجهول أنّ سعيد عقل لم يتحدث عن أدب جبران العربي مقدار ما تحدث عن لغته الإنكليزية وعن شهرته في العالم وعن المتطفلين الذين توسلوا اسمه لغايات في نفوسهم. وعمد إلى حصر أثر جبران في ما يسميه أدب «اليفاع الدائم» فهو بحسبه «ذاك الذي قرأه – بل التهمه – في شرّة صباهم، كل الفتيان من أبناء شرقنا». وعوض أن يتطرق إلى فرادة لغته العربية الحديثة تحدث عن لغته الإنكليزية، مادحاً إياها على طريقته الاعتباطية، مبالغاً في مدحها، قائلاً إنها أضفت على لغة الإنكليز «رعشة» لا عهد لهذه اللغة بها، جاءت «بحجم التي كان أضفاها عليها شكسبير». هذا طبعاً حكم لا يُعتدّ به، لا كثيراً ولا قليلاً، بخاصة أن شــاعرنا لم يكن يجيد الإنكليزية على خلاف الفرنسية لغته الثانية. وفي مثل هذا المديح سعى عقل إلى نفي جبران إلى الإنكليزية ليتوج نفسه أميراً بل ملكاً وربما إلهاً- كما يقول- على عرش العربية. جبران هناك وأنا هنا. وهو كان فعلاً أميراً للشعر العربي، الكلاسيكيّ المنحى، بل آخر أمراء هذا الشعر.

لم يكن سعيد عقل يؤثر أدب جبران ولا لغته ولا شعره العمودي لا سيما قصيدته «الملحمية» الشهيرة «المواكب». وما كان ليغفر لجبران «خطأه» الجسيم في عتق أسر اللغة العربية وتحريرها من قيود المعاجم وتشريع أبوابها على هواء العصر وجعلها لغة الحياة المتجددة دوماً. ما كان عقل ليرضى مثله مثل كل المعجميين المحافظين أن يستخدم جبران فعل «تحممت» بدلاً من «استحممت» في قصيدة «المواكب». وبرأيه أنّ الاستعانة بـ»العامية» هنا سقوط في البساطة والركاكة، والشعر أبعد ما يكون عن البساطة والركاكة والعامية. ومع أن شاعرنا كتب قصائد كثيرة بالعامية وبعضها من أجمل شعره، فهو رفع الصنيع العامي إلى مصاف صنيع اللغة الفصحى. كتب عقل العامية بـ»ذهنية» الفصحى، متانة ومراساً، وفي منأى عن البساطة والعفوية. شعره العامي مشغول مثل شعره بالفصحى، لا هنة ولا ضعف ولا انثيال… وعلى خلاف جبران جدد عقل اللغة العربية وهو غارق في قلب المعاجم، ساهراً على الفصاحة والبلاغة، متخيّراً الألفاظ والمفردات على طريقة الثعالبي وابن السكّيت. أما جبران فراح يجدد العربية معتمداً إيقاع العصر وفصاحته الحديثة، مقترباً قدر ما أمكنه من منابت اللغة الحية والروح الجماعية. وهنا سرّ الثورة التي أحدثها عربياً والتي شهدت العربية من خلالها نقلة تاريخية. ومن مآخذ عقل على «المواكب» أيضاً، قول جبران فيها «الغناء سرّ الوجود» وقد تهكّم في إحدى إطلالاته التلفزيونية الكثيرة من هذه الجملة قائلاً: «ولو يا جبران، الغناء سر الوجود». وفاته أن ما يقصد جبران إليه هنا هو «المعرفة الأورفية للكون» بحسب عبارة الشاعر الفرنسي مالارمي الذي نسي عقل أنه أخذ عنه فكرة «اللحظة الإيقاعية الكونية» كما يؤكد الناقد أنطون غطاس كرم.

الحسرة التي كانت تنغّص حياة سعيد عقل أن شعره لم يترجم إلى اللغات الأجنبية، ما يعني عدم خروجه إلى العالم. وهذا ما زاد من حمأة غيرته من جبران. تُرجم جبران إلى لغات الأرض وعرف شهرة عالمية لم يعرفها كبار أدباء العالم. وكان كتابه «النبي» هو الذي شقّ طريقه إلى العالمية، بصفته كتاباً حكمياً ورؤيوياً. أما شاعرنا الذي كثيراً ما جرى الكلام عن رفعه وطن الأرز إلى منابر الأمم، فنادراً ما ترجم، وإلى الفرنسية غالباً، وفي لبنان وليس في الخارج. الترجمة الوحيدة التي حظي بها كتاب كامل له هي ترجمة «كتاب الورد» وهو في النثر الفني، وأنجزتها أستاذة جامعية في لبنان. هذا الكتاب وحده بدا قابلاً للترجمة – مبدئياً – على خلاف معظم شعر سعيد عقل العصيّ على الترجمة مهما كان المترجم «فحلاً» في حرفته. حاول كتاب يجيدون الفرنسية والعربية أن يترجموه إلى لغة موليير فأنجزوا القليل القليل ومنهم رواد طربيه وألكسندر نجار. وسعى مرة أحد الأصدقاء المترجمين أن يترجم له قصيدة يحبها ويقول مطلعها: «انت واليخت وان نبحرا/ في الرياح اللينات الهبوب»… فعجز وعكف عنها خوفاً من أن يُفقدها سحر إيقاعها العربي، فهي بالفرنسية تغدو قصيدة عادية جداً وسطحية. شعر سعيد عقل شعر شكل ومراس في اللغة وصنعة باهرة ونحت وسبك ودربة…أما معانيه فإنما تتخلق من صميم الشكل نفسه. الشكل لديه هو المعنى، الإيقاع هو المعنى، البرق اللفظي هو المعنى. ولعل هنا خصال مدرسة سعيد عقل الشعرية واللغوية، العربية. وعندما أدرك شاعر لبنان هذا الأمر مرغماً راح يكتب بالفرنسية وأحد دواوينه عنوانه «الذهب قصائد». لكنه لم ينجح البتة والسبب الرئيس أنه كتب بذهــنية عربيــة شــعراً يدّعي فرنسيته. لكنّ عنجهيته الزحلاوية دفعته إلى التصريح مراراً: «سعيد عقل سيعلم الفرنسيين كيف يكتبون بلغتهم».