IMLebanon

بين منصور لبكي ودار الأيتام الاسلامية: عن أيّ حقوق نتحدث؟

إعلان طارق الملّاح الإضراب عن الطعام، للحثّ على فتح تحقيق في حادثة اغتصاب وقعت في دار الأيتام الإسلاميّة، يعيد إلى الواجهة مشكلة نظام الرعاية البديلة في لبنان، الذي تتحكّم فيه مؤسّسات طائفيّة، غالباً، إن لم نقل دائماً. تتستّر السلطات القضائيّة على ما يحدث من انتهاكات داخل هذه المؤسسات، محوّلة إياها ركيزة أساسيّة في المنظومة السياسيّة ــ الطائفيّة التي تستغل حاجات الناس وحقوقهم البديهية من أجل تكريس سلطتها وديمومة هذه السلطة

أمام مبنى وزارة الشؤون، قرّر طارق الملّاح المكوث… حتى الموت! على الرصيف المُلاصق للدرج المؤدّي إلى مكتب الوزير. جلس حاملاً لافتة يشير فيها إلى “حالات اغتصاب جديدة في دار الأيتام الإسلاميّة”، معلناً إضرابه عن الطعام إلى حين فتح تحقيق جديّ وشفّاف، والتدخّل لوضع حدّ لمعاناة الأطفال.

مجدّداً، قرّر الملّاح خوض المواجهة، ولو وحيداً، بعد أن وردته معلومات من داخل الدار عن حالات اغتصاب جديدة. أمّا الهدف فهو “تحصيل حقّي المُغتصب، وحقّ سائر الأطفال الذين تعرّضوا للاغتصاب والتعنيف، وإنقاذ مشاريع الضحايا الجدد”. لكن لم تحلّ الساعة الرابعة حتى أعلن فكّ الإضراب، بعدما أُعلم بفتح تحقيق في الموضوع.

يا طارق، عيب هالكلام!

“معلومات” الملّاح يقابلها نفيٌ من “دار الأيتام الإسلاميّة”. يقول مدير عام المؤسّسة خالد قباني إن “ما أثير في الإعلام لا أساس له من الصحّة، وتالياً لا يجوز التوقّف عنده أو إعارته أيّ أهمّية”. يركّز قباني على سنّ الأطفال لدحض الادعاء، من دون تأكيده فتح تحقيق في الموضوع، ويقول: “الأولاد الموجودون في فرع الأوزاعي لا تتخطّى أعمارهم تسع سنوات، وتالياً من غير المعقول أن يحصل معهم ذلك، خصوصاً أن المشرفات ينتمين إلى أسر محترمة. الحديث في الموضوع أمر معيب”. يتابع قباني: “هناك كاميرات في الدار، وعند حدوث أي خطأ تتمّ معالجته، أمّا الحديث الآني فهو مختلق ويندرج ضمن المسلسل القديم – الحديث للتصويب على الدار المشهود لها برعاية الأطفال وتعليمهم واحتضانهم منذ مئة عام”.

ماذا عن وزارة الشؤون الاجتماعيّة؟ تكمن صلاحيّة الوزارة في فرض رقابة على المؤسّسات ناتجة من العقود الموقّعه بين الطرفين، بحسب مستشار وزير الشؤون الاجتماعيّة فهمي كرامي، الذي يعرّف اغتصاب قاصر بكونه “جرماً جزائياً تتحرّك فيه النيابة العامّة لإجراء تحقيقاتها، أمّا صلاحيّة الوزارة فتشتمل على الرقابة الاجتماعيّة على تطبيق العقود الموقّعة، لقاء تأمين خدمة الرعاية للأطفال على نفقتها. وتالياً لا يمكننا التحرّك إلّا بموجب مستند خطّي يوثّق مخالفة ما، يقدّمه أي مواطن، فترسل الوزارة مندوبيها لإجراء كشف للتأكّد من صحّة وقوع المخالفة”. ويتابع كرامي: “في الحالة الراهنة، طلبنا من أجهزتنا التحقيق في الموضوع وفق الأصول والآلية القانونيّة المتّبعة في التعاطي مع المؤسّسات الرعائيّة”.

ماذا عن اتهامات التقصير وحماية المؤسّسات الرعائيّة تحت حجّة “عدم المسّ بطائفة معيّنة”، كما سبق للوزير رشيد درباس أن صرّح؟ يردّ كرامي بأن “الوزارة تقوم بواجبها وفق الأصول القانونيّة، لا عبر ضخّ المؤسّسات الإعلاميّة. هناك مندوبو مراقبة يقومون بكشوف دوريّة على المؤسّسات، وعند حدوث أي مخالفة نتّخذ الإجراءات المناسبة، فهدفنا تصحيح العمل لا تدمير مؤسّسات تستقبل أعداداً كبيرة من الأيتام”.

سلطة الدين فوق الحقوق

منذ سنتين، كسر الملّاح حاجز الصمت الصعب ليواجه حواجز أخرى، أبرزها تضامن الناس مع القوى المُهيمنة تقليدياً (الدينيّة في هذه الحالة)، والميل إلى تقديم مصلحة المؤسّسة، بحجة تأمين مصلحة الطائفة، باعتبار أن لكلّ منها مؤسّساتها الرعائيّة، على حساب الأطفال.

في الحقيقة، لا يهمّ إن كان ذاك الشاب يسعى للشهرة (كما يُتّهم)، ولا تعنينا هويته الجنسيّة (كما يتحجّج البعض بوقاحة لتبرير اغتصابه). لبّ المشكلة يكمن في منظومة طائفيّة – سياسيّة، استمراريتها مؤمّنة وحمايتها معزّزة ما دامت الدولة المدنيّة بأجهزتها القضائيّة متمنّعة عن القيام بواجبها.

إن تقاعس النيابات العامّة عن إجراء أي تحقيق يؤمّن مصلحة الطفل، لا المؤسّسة، ليس وليد اليوم. وحالة الملّاح أو الأطفال في فرع الأوزاعي (في حال ثبت تعرّضهم للاغتصاب) ليست الأولى؛ هناك خمس حالات كُشف عنها في مؤسّسة “قرى الأطفال – SOS” أدّت إلى إقالة المتحرّش مع إعطائه كافة تعويضاته وشهادة حسن سلوك، من دون إحالته إلى القضاء. وهناك 17 طفلاً ضحية اعتداء جنسيّ مارسه الأب منصور لبكي، اكتفت السلطات القضائيّة اللبنانيّة بقرار الفاتيكان القاضي بالحكم عليه بالصلاة ومنعه عن الخدمة الكهنوتيّة لمدى الحياة للتكفير عن ذنبه، من دون أن تحرّك ساكناً. ضميرياً (هذه الحال للتهكّم) إن اتهامها بعدم التحرّك أمرٌ جائر، فهي استدعت ضحايا الاغتصاب على أنهم “شهود زور”. كلّ ذلك حصل ويحصل باسم “عمل الخير”، وبمباركة سلطات دينيّة تكرّس استباحة حقوق أطفال مُستضعفين.

تنظيم دور الرعاية

منذ عام 1996، قامت محاولات عدّة لتنظيم عمل دور الرعاية، من دون نتيجة. تعيد المديرة التنفيذيّة لجمعية “بدائل”، زينة علوش، السبب إلى تمنّع القوى السياسيّة والطائفيّة عن مواجهة المشكلة، ليتحوّل الملف عبئاً ثقيلاً يلقى على عاتق وزراء الشؤون الاجتماعيّة المتعاقبين في كافة العهود، فيما المسؤوليّة جماعيّة.

وتشير علوش إلى “وجود 28 ألف طفل في مؤسسات الرعاية، يشكّلون نحو 2% من أطفال لبنان، في ظل غياب أي إطار قانوني مدني يحمي الحقوق، ويحاسب المعتدي عند حدوث أي اعتداء”. أمّا أبرز العوائق المرتبطة به فهي “النظام السياسي الطائفي النفعي الذي ينقصه الحدّ الأدنى من الرؤية المستدامة ويعتبر أن العمل الخيري جسر عبور انتخابي، وتركيز العمل الاجتماعي على الرعاية المؤسّساتيّة على حساب التدخل المجتمعي، وانعدام الدراسات التقييميّة لنوعية حياة خريجي دور الرعاية في لبنان”.

ما هي الحلول؟ وضعت وزارة الشؤون برنامج عمل من ثلاث مراحل لتفعيل حماية الطفل داخل المؤسسات، يقول كرامي: “حدّدنا المعايير الواجب توافرها، وتم تأهيل المدرّبين، والآن نحن في طور مساعدة المؤسّسات لتطبيق هذه المعايير، ووضع سياسة متكاملة للمؤسّسات”. لكن بالنسبة إلى علوش “لا يتمّ الإصلاح إلّا وفق استراتيجيّة تقتضي أولاً توفير الشروط الرعائيّة واعتماد سياسة حماية تقضي بمقاضاة المعتدي وتوفير رعاية نوعية تسمح للطفل بحماية نفسه. ثانياً وضع قانون مدني يحدّد نوعية الرعاية البديلة وشروطها، ويضع آلية للمحاسبة، تتضمّن إمكانية فسخ العقود مع المؤسّسات التي تخالف الشروط”.