IMLebanon

بين عالمَين..

 

الباحث عن الحقيقة وجدها، والباحث عن مواصلة الاستثمار في الخطأ خاب.. والأمران نسبيّان في عالم تتداخل فيه شؤون الأنسنة والحقوق البديهية للبشر مع شؤون الدول ومصالحها واستراتيجياتها.

 

في قضية الزميل الراحل جمال خاشقجي بَرَز ذلك التداخل بصلافة لكنه أنتج على هامشه مفارقات جمّة في رأسها تنطّح مَنْ هو غير مؤهّل في الأساس، لتقديم شهادات من خارج اختصاصه! وانعدام الأهلية الموازي لفقدان الاختصاص هذا لا تنقصه الأدلّة والوقائع وتراكمات الأداء.. ونحن في لبنان قبل غيرنا ربما وأكثر من غيرنا بالتأكيد، “يحقّ” لنا الجهر والقول بذلك طالما أن قضايا الاغتيال التي طالت سياسيين وإعلاميين أفذاذاً لا تزال مفتوحة! وطالما أن الجاني واضح الهوية! وطالما أن ازدواجية المعايير متّبعة من قبله استناداً إلى “ثرائه” العنفي والدموي الفاحش، ثم إلى تميّزه التنظيمي والتسليحي ثم إلى ليونته “الفكرية” التي تدفعه إلى تلبيس جرائمه المخزية عناوين “نضالية” كبيرة، و”فضائل” مُثلى حتى وإن وصلت المواصِل إلى معس شعب كامل هو الشعب السوري من أجل عصبة ديكتاتورية فئوية!

 

في الموروث الشعبي زادٌ يكفي للاستعارة والإشارة وتحديداً من باب العفّة والمحاضرة فيها من قِبل المُدان الحصري بهتكها! وحامل هويّة النقيض لها! لكن الأمر عند أصحاب هذه “الحالة” يتخطى معيار الوقاحة والسفاهة الأخلاقي ويعود في أصله إلى منظومة فكرية متكاملة تقارب أن تكون إيمانية خالصة قبل أن تكون وليدة قناعات متأتية من أحوال طبقيّة أو سياسية أو انتمائية أو مصلحيّة أو كردِّ فعل على شعور بمظلومية ما.. وفي هذه المنظومة التي بنى عليها طغاة الزمان كل طغيانهم يأتي العنف السافر في رأس جدول الأعمال. وتصاحبه في المساحة ذاتها فرادة الفتك بمكارم الأخلاق في كل بنودها بحيث يصير قتل الآخر المختلف في الرأي أو الدين أو المذهب أو الحزب فعلاً مشروعاً وفق شريعة القاتل! وفعلاً حميداً يحتّمه “الحكم” على المقتول بأنّه برغي في آلة خبيثة تعمل عملها لدحر “الأمة” وتغطيس نُخبها التحرّرية وردّها عن الوصول إلى غاياتها وأهدافها الجليلة والنبيلة!

 

على هذه السيبة وقف كل عتاة الطغيان في كل العصور وتجلّت نتاجاتهم في البلاء الذي ضرب البشر في القرن العشرين تحديداً من قبل البلاشفة الروس وإلى جوارهم غير البعيد الفاشيين الإيطاليين ثم النازيين الألمان.. مروراً بالناسخين والمتشبّهين اللاحقين في المدار العربي والإسلامي وفي طليعتهم أهل “البعث” بحدّيه العراقي والسوري، وأهل الأصولية الدينية الحركيين شيعة وسنّة! وصولاً في نواحينا وراهننا إلى هوامش منسلّة من ذلك المسار وإن رطنت بالحداثة أو انتحلت صفة قلميّة أو فكريّة أو قيميّة ما!

 

في جزئية الاعتراف في قضية الزميل خاشقجي يكمن الفارق الجوهري بين عالمَين متناقضين: واحد يملك شجاعة الإقرار والاعتذار عن خطأ جاء من خارج السياق ومنظومة القيم الفاضلة. وثانٍ يرتكب وينكر ثم يُبرّر ويفلسف ويؤدلج توحّشه من داخل سياقه ومقوّمات منظومته ولا يخجل ولا يرمش له جفن حتى لو تعلق الأمر بقتل مليون سوري وتهجير عشرات الملايين غيرهم، وليس فقط بحملة الاغتيالات التي طالت صفوة الناس في بيروت!