أدركَ الرئيس جوزف عون جيداً أن «الحوار الداخلي» لبحث استراتيجية دفاعية وحصر السلاح ما هو إلّا تقطيع وقت، فضلاً عن أنه مناسبة استثنائية للمزايدات السياسية» اللبنانية» التي لا ترحم قضية ولا وطناً ولا إنساناً بل هو منصّة يطلع علينا فيها البائعون والشرّاؤون بأطروحاتهم المعروفة والمكشوفة المنطلقات والأهداف. فلا المقاومة مستعدة لتفلش بضاعتها أمام قوى سياسية تناصبها العداء منذ أربعين عاماً فتعطيها فرصة لإظهار بطولات كلامية تحتاجها « الأسواق» السياسية الداخلية، والخارجية، ولا تلك القوى لديها القابلية لتدرس الموضوع من جوانب حاجة لبنان والجنوبيين بشكل خاص إلى حماية من تكرار عدوانات إسرائيل، كل مرّة «بعنوان»، فهؤلاء قرروا أن موقعهم الداخلي والخارجي وحرصهم على الاستفادة الذاتية من أي ملف يُطرح في «حوار»، يحتمان عليهم استغلال المناسَبة لكسب الرأي العام عندهم والذي هو أصلاً إلى جانبهم في معارضة بل محاربة المقاومة والسلاح…
حسناً فعل الرئيس جوزف عون في جعل ذلك الحوار ثنائياً بينه وبين المقاومة من دون شريك ثالث. ذلك أن عون، المؤتمن بالقسم على الوطن والشعب، بخلفيته العسكرية، وذهنيته الوطنية الجامعة، أكثر من يعرف الجوانب التي ينبغي أن تُبحَث. والضغوط الدولية والعربية عليه يعرف أيضاً كيف يتجاوز مطبّاتها، ويُجيد التصرف معها. فهو يحتاج دعم تلك الدول ويستجيب لها لكن ليس بحذافير الشروط المطروحة والقوالب غير المنطقية التي تُرسَم. وكلامه للتلفزيون قبل أيام يدلّ على عمق نظرته إلى هذا الشأن المعقد الذي كلما استسهله البعض تجذّرَ وتبيّن أنه لا يُلخّص بكلمتين خُلّبيَّتين ترددهما بعض القوى كأنها مَرهمٌ أو برشامة وهُما «نزع السلاح»، بينما يصر رئيس الجمهورية على كلمتيّ «حصر السلاح بيد الشرعية». والمشكلة هنا ليست في المعنى والهدف، بل في الكلمات التي تصوّر الأمور بطريقة استفزازية. وما شهدناه في الأسبوعين الأخيرين من سجال محتقن حول هذين التعبيرين يدلّنا تماماً إلى أين كان يمكن أن نسير لو تركنا «الحوار» بين أيدي القوى السياسية والزعامات اللبنانية المشهود لها بالنكد وتصفية الحسابات الصغيرة والكبيرة.
لا تصفيات ولا حساب بين رئيس الجمهورية والمقاومة. والثقة المتبادلة بينهما منذ سنواتِ قيادة عون الجيشَ اللبناني، وعبر محطات حسّاسة عدة، تخوّله أن يكون محاوراً بنّاء، يعلم ما هي قدرات المقاومة وإمكاناتها بحكم عسكريته على الأرض، ويعلم ما هو المطلوب داخلياً وخارجياً، ويسعى إلى إيجاد توازن ما يؤدي إلى نتائج فعلية ملموسة لا تُنهي المقاومة بما يسمح لإسرائيل أن تدخل جنوب لبنان «بفرقة موسيقية»، ولا تلبّي رغبات ونوازع بعض الدول في الثأر والانتقام من المقاومة كونها كانت وما زالت خارج «حضنها». فأبناء الجنوب جاهزون للدفاع عن أرضهم سواء أقر البيان الوزاري ذلك أم لا، ناهيك عن أن سلاح المقاومة لا يسلّم بين ليلة وضحاها. وإذ يقول الرئيس إن الجيش اللبناني يدخل مواقع ويصادر أسلحة للمقاومة من دون أي اشتباك معها، يكشف عن تنسيق دقيق وقوي. إذ أنّ الاشتباك كان مرغوباً لدى قوى سياسية تعمل خدَماً عند الدول العربية والإدارة الأميركية من أجل دق اسفين بين المقاومة والشعب اللبناني ككل، والجيش من أبنائه، وتشويه النوايا المقاوِمَة والسلوكيات المعتمدة منها. الرئيس عون سحب كل هذه الفتائل المغرضة ووضع الموضوع على طاولة المباحثات في غرفة مغلقة بينه وبين قيادات ميدانية وسياسية في المقاومة. وفي تصريحه الأخير عكَس ارتياحاً وأريحية في ما يجري بينهما من معالجة.
والسؤال هو لماذا يختار رئيس الجمهورية عباراته بدقة وتأنّ، بعكس ما تفعل قوى سياسية كثيرة في البلد؟ هل لأنه رئيس للجمهورية ويتعيّن أن يضع صورة البلد كاملة أمام عينيه لا أن يضع صورة منطقة انتخابية «يسيطر» عليها ؟ هذا سبب، لكنْ هناك سبب إضافي أساسي هو أنه قائد عسكري لا يغيب عن باله أن لبنان مرّ في مراحل تحرير، وصمود، وجعلَ إسرائيل تفكر عشرات المرات قبل أن تنوي مهاجمته، وتالياً كان للمقاومة حضور فعليّ وفاعل في صراعنا مع عدو البلد الأكثر دموية وتخريباً. الرئيس عون لا ينسى هذا الواقع، غير أنه يدرك في المقابل أننا أصبحنا في مرحلة مختلفة تتطلب خطوات معينة لا بدّ منها. والمقاومة كما يبدو من كلام الرئيس نفسه، تدرك أنها في المرحلة المختلفة إياها، ومن هنا التعاون مع الرئيس. يضاف إلى ذلك سبب آخر هو أن عون يقوم بعمله داخل فضاء وطني عام لا من زوايا مصلحية ضيقة يريد بها كسباً جماهيرياً يوظفه في زواريب البلد.
لا بدّ من أن ينجح «الحوار» بين الرئيس والمقاومة لأنه يجري وسط صمت إيجابي. والطرفان لا يحتاجان زعيقاً حولهما في المعطيات التي يتم التعامل معها بتقدّم مفيد. ومع ذلك ستطلع أصوات تطالب بإعلان مضمون «الحوار» الجاري، طمعاً في كسب مادة «مشوّقة» لِلّعب عليها.. وعلى المواطنين.. وعلى الوطن!
وهكذا يعالجُ المحتَرَم مادةً محتَرَمة.
طبعاً لن يكون سهلاً على «القوات والكتائب» خسارة هذه «الفرصة» الذهبية للتشكيك والتحريك ضد المقاومة وتالياً ضد الشيعة في لبنان رغم نفيهما ذلك في تصاريح «ودّية» ظاهراً، لئيمة باطناً، وقد يتحوّل تصريح عون في قطر عن أن «الحوار ثنائي» بين رئيس الجمهورية و«حزب لله» إلى حنَق سياسي وطائفي لدى تلك القوى باعتباره شأناً وطنياً «يجب» أن يكون لهما دور فيه، مع أنهما رفضا الحوار رفضاً قاطعاً، ودَعَا كلّ منهما منفرداً إلى نزع السلاح وتسليمه دفعة واحدة.. وإلّا..
بالإضافة إلى أن هذين الحزبين قد يرفعان شعاراً جديداً هو «نحنا قدرنا نخلّي الحزب يسلّم سلاحه»… في معرض الدونكيشوتيّات المفتوحة!