IMLebanon

تراجع مستوى التعليم وهجرة الكفاءات… والمركز التربوي في الـ«كوما»!

 

 

يغيب المركز التربوي للبحوث والإنماء، بصورة مفتعلة عن أداء دوره الأكاديمي في وضع سيناريوهات محتملة لما سيكون عليه الواقع التعليمي في السنوات المقبلة، وخطة علاجية للتأخر المدرسي الناتج عن التعلّم عن بعد والمدمج والفوضى. النتيجة: تراجع مستويات التعليم وهجرة الكفاءات

 

تصفّح الموقع الإلكتروني للمركز التربوي للبحوث والإنماء يظهر أن الرئيس المكلف للمركز جورج نهرا قام، في الشهرين الماضيين، بـ 12 زيارة لمؤسسات تربوية طائفية وجامعات وروابط بصورة توازن بين الطوائف. زيارات برتوكولية – سياحية لرئيس مركز يفترض أنه العقل المدبر للتربية، فيما هو ينحدر إلى مستوى التشبيك السياسي لينال غطاءً من الطوائف والأحزاب لتأمين استمراريته. ليس شخص الرئيس هو المقصود هنا، إنما السياسة التربوية المتبعة وتحطيم مستوى المركز الأكاديمي والمرجعي في المجال التربوي.

 

أمام هذا الواقع للمركز، يأتي التقرير الأخير لـ«يونيسيف» وما حمله من مؤشرات صادمة، أبرزها أن 30 في المئة من أطفال لبنان ينامون ببطون خاوية، وهؤلاء سيمتنعون في شكل أو آخر، كلياً أو جزئياً، عن الالتحاق بالمدارس في العام الدراسي المقبل، وأن قسماً كبيراً من تلامذة المدارس الخاصة سينتقلون إلى التعليم الرسمي، وأن أعداداً كبيرة جداً من المعلمين من ذوي الكفاءة سيغادرون من أجل لقمة العيش، وآخرين سيمتنعون عن ممارسة التعليم أو يلجأون إلى الإضرابات لصعوبة تأمين كلفة الانتقال إلى أماكن عملهم. أضف إلى ذلك، سنتين من اللاتعلّم شبه الكلّي الذي لحق بكل تلامذة لبنان في القطاعين الخاص والرسمي بنسب متفاوتة، ومن دون تقييم حقيقي لعملية الاكتساب التي حصّلها التلامذة خلال هاتين السنتين.

أمام هذا كله، وبدل أن ينكبّ المركز على تقييم اكتساب التلامذة في القطاعين الرسمي والخاص ليضع خطّة علاجية للسنة المقبلة والسيناريوهات المحتملة، وآلية تعليم حقيقية قابلة للتنفيذ لتعويض ما خسرناه، وأن يؤدّي دوره الجامع للطاقات الأكاديمية المتنوّرة ذات الرؤى المستقبلية، ها هو يعمل على خطّة تنسيق سياسي، وينسق زيارات مع ممثلين عن مؤسسات تربوية لا صفة أكاديمية لهم بل إدارية، لاسترضاء الطوائف والأحزاب ومؤسسات السياسيين. وفي كل الأحوال، لم نرَ وزير التربية أو المركز التربوي أحاطا نفسيهما بمستشارين أكاديميين عالي المستوى لوضع سياسات وخطط استثنائية في هذه الظروف، ولا لوضع سياسة تربوية علاجية للسنوات المقبلة. فالجهات التي يستشيرها الوزير، سواء روابط المعلمين والأساتذة والمؤسسات التربوية والجامعات الخاصة والرسمية ونقابة المعلمين والمؤسسات الدينية التربوية، ليست جهات أكاديمية وتربوية، ولا تشكل مؤسسات نواة لجنة استشارية أكاديمية.

أمام الفشل المتراكم في معالجة الأزمات المالية والصحية والاقتصادية، يخسر لبنان موقعه المتميّز في التعليم الذي بدأ بالانحدار منذ ما قبل الأزمة بسنوات، فيما يواجه اليوم حالاً من الفوضى وغياب الرؤى لسبل معالجة الأزمة التعليمية. ونرى، بقليل من البصيرة، هجرة متزايدة للتلامذة اللبنانيين نحو المدارس الرسمية (18 ألفاً العام الماضي ونحو 40 ألفاً هذا العام)، والمتوقع زيادة أكبر للعام المقبل مع تفاقم الأزمة الاقتصادية. كما نرى بوضوح فشل الحلول التعليمية المعتمدة في القطاعين الخاص والرسمي وبنسب متفاوتة لنظامي التعليم المدمج وعن بعد، وغياب كل أشكال التقييم المدرسي والمركزي التي تتبع معايير صحيحة، كما لن تنقذ الامتحانات الرسمية المستوى التعليمي وتعطيه مصداقية أكاديمية في الجامعات المحلية والعالمية، فهذه أوهام ورقية لا أساس لها في الواقع التعليمي مع غياب نظام تقييمي مناسب ومستمر.

 

موهوم من يتوقّع أن العام المقبل سيكون أفضل حتى مع انحسار الجائحة

 

 

سيترافق هذا الجانب من الأزمة مع هجرة العديد من الكفاءات التعليمية واعتكاف بعضها الآخر، ولن يبقى إلا بعض المدارس المدعومة من جهات خارجية أو ذات الأقساط المرتفعة لذوي الدخل العالي، والتي تعطي رواتب مع تقديمات للمعلمين للمحافظة عليهم. أما في باقي المدارس، ومع غياب شبه تام لخطة علاجية للتأخر المدرسي الناتج عن التعلّم عن بعد والمدمج والفوضى، ومع غياب المركز التربوي بصورة مفتعلة، فستهوي مستويات التعليم مع عدم القدرة على تقييم علمي لمستويات الاكتساب والتعلّم خلال العامين الماضيين. ولن يبقى في المدارس الخاصة والرسمية إلا فوضى تعليمية وأداء عشوائي للمعلمين لتغطية فشل المنظومة التربوية والسياسات المعتمدة من الوزارة والمركز المسؤولين عنها.

موهوم من يتوقع أن العام المقبل سيكون أفضل من العام الحالي، حتى مع انحسار الجائحة، فالمشكلة التي سنواجهها ليست صحية فقط أو مالية اجتماعية بل أيضاً أكاديمية، وسيعلق المعلمون في دوامة «ماذا تعلّم التلامذة في السنوات الماضية؟». وكل شرح لدرس أو مادة لا يشرح مجدداً ما تعلّمه التلامذة عن بعد سيكون بحد ذاته معوقاً أمام تقدمه. بمعنى آخر، حتى من تابع التعلّم عن بعد بجديّة، فإن قدرته على استيعاب ما تلقاه لن تتجاوز 50% في أفضل الأحوال عمّا يكتسبه حضورياً، ما يفقده القدرة على استيعاب معرفة متقدمة في موضوع أو مادة ما.

أمام هذا الواقع وهذه الفوضى المقرونة بغياب رؤية وخطة سيكون الأهالي أمام معضلة: كيف سيكون وضع أولادهم في العام المقبل؟ وكيف السبيل لإعادة الحوافز النفسية والصحية لأولادهم واستدراك مستويات التعلّم؟ وماذا سنفعل مع قتل المنظومة التعليمية الرسمية وتدمير إرث المركز التربوي الأكاديمي وتعطيل التشريعات المساعدة لمعالجة الأزمة التعليمية؟

وللأمانة والواقعية، المنظومة السياسية لا تكترث للتعليم. فأولاد السياسيين ومؤسساتهم التربوية على أحسن حال، بل صارت في مواقع أفضل بعد فشل القطاع التعليمي الرسمي وموته التدريجي الواضح، ولن تعمل هذه المنظومة إلا على إبقاء المدرسة الرسمية شكلاً من دون مضمون أكاديمي لأسباب سياسية وانتخابية، وستعمل جاهدة لإعلاء نخب مدرسية لـ 5% من الناس القادرين على دفع أقساط مرتفعة لتعليم جيّد.

ماذا سيفعل الناس وكيف يحصّلون تعليماً جيداً لأولادهم؟ وكيف تحدد أهداف المرحلة المقبلة؟ مسائل بسيطة ومعقدّة في آن. فالمواطن اللبناني من الطبقة الوسطى الدنيا وما دون صار في مرحلة «صراع البقاء». فهو يبحث عن سبل البقاء حياً وليس «رفاهية» التعليم، مع فقدان مستلزمات الحياة من مواد غذائية وغلائها إضافة إلى المحروقات والدواء والحماية الصحية وفقدانه مدّخراته في المصارف.

لا دولة في لبنان، ولن تأتي حكومة قادرة على حلحلة أزمة التعليم قبل خمس سنوات، إذا استمرّ التعاطي من خلفية سياسية مع الموضوع الأكاديمي. لذلك على الأهالي ومنظمات المجتمع المدني البحث عن بدائل في مراكز مجتمعية وبلدية، تعيد للتلميذ الحوافز التعلّمية من خلال إدراج أنماط تعليم تفاعلية متوافقة مع المحيط المجتمعي لخلق رغبة في التعلّم وحبّ الحياة، إلى جانب المتعة والفرح اللذين يحتاج إليهما التلميذ ويحفّزانه على الإبداع، ولا ننسَ الجانب الغذائي الضروري لنمائه الشخصي والعقلي.